أحمد الهلالي

جدلية النقد والإطراء (التجني والتطبيل)!

الثلاثاء - 29 يناير 2019

Tue - 29 Jan 2019

في كل شؤوننا لا بد أن نتغيّا الاتزان، تمثلا لمقولة (لا إفراط ولا تفريط)، ويظل العقل هو الفيصل في زحام أطياف التلقي وألوانه المتفاوتة، فيمكن أن تقول أو تفعل أمرا ما في مقام ما، فتتباين ردود أفعال المتلقين، وهذا التباين معلل باختلاف التوجهات والرؤى والمشارب والأطياف الثقافية والفكرية، ومعلل بزوايا النظر أيضا، وهو صحي جدا، لا يكون فيه الاعتلال المرضي إلا في حالة صمت المتلقي، وفي حالة ثورة المتحدث إن أفصح المتلقي عن مخالفته، وربما يرتبط الأول بالثاني، فيصمت المتلقي خشية ثوران الأول.

كتبت سلسلة مقالات (تنقد) الجامعات، حاولت جهدي أن أكون موضوعيا، فكان التلقي مبهجا من الكثيرين، لكن ثمة من يقول إن موقفا شخصيا، أو مصلحة معطلة، هي ما حرك قلمي إلى النقد، حتى إن مذيع قناة الإخبارية في لقاء متلفز بعد مقالة (الأحزاب وراء أسوار الجامعات) كان يصر على وجود الدافع الشخصي للكتابة عن الموضوع، مع أن ما تحدثت عنه كان شأنا إداريا عاما لا يخص الجامعات وحدها، ومثله كذلك بعض الأصدقاء دندنوا حول نقطة الدافع الشخصي، بعضهم صرح بذلك على سبيل الاتهام المباشر، لكني أعلنت عبر البرنامج وأعلن هنا أن الدافع الحقيقي وراء هذه المقالات الناقدة هو المصلحة الوطنية، والواجب الوطني ما دمت أملك نافذة رأي في صحيفة وطنية موقرة.

الثقافة السائدة أن وراء كل نقد خسارة، ووراء كل إطراء مصلحة، يترجمها المثل الشعبي (ما يمدح السوق إلا من ربح فيه)، وهذه المقولة ليست مصيبة بالكلية، وليست مخطئة بالكلية، فهي مصيبة في ظاهرها الدلالي التجاري المعتمد على المكسب والخسارة، ومخطئة إذا حاولنا إسقاطها على كل شؤون حياتنا، فليست الخسارة محركا (للنقد) دائما، إلا إن كانت الذات الناقدة معتلة، ومثلها الإطراء، خاصة لدى الإعلاميين وكتاب الرأي الذين تفترض فيهم الموضوعية وتقديم المصالح الوطنية العليا على مصالحهم الشخصية.

على المستوى الاجتماعي حين يعد الإطراء الموضوعي لأي مؤسسة أو شخصية تطبيلا، أو يعد كل نقد هجوما وانتقاصا، فلن يترقى مجتمعنا، ولن نحقق ما نطمح إليه، وسيظل الكتاب والإعلاميون ملاحقين بهذه الاتهامات، وإن صمتوا ستثور الأصوات (أين إعلامنا وكتابنا عما يحدث؟)، فبهذا تختلط المفاهيم، وتصبح السطحية في التناولات ديدن الكثيرين، ولا نستغرب أن بعض الكتاب اليوم يشغل زاويته بموضوعات عامة وتثقيفية وتوعوية، ليس لأنه لا يملك قلما ناقدا، لكن لأنه لا يريد (وجع الراس).

أما على مستوى المسؤول، فالمصيبة أعظم، فالمسؤول المنتشي بالإطراء والتطبيل، الضائق ذرعا بالنقد، يعاني من أزمة حقيقية، فاعتباره النقد هجوما وتجنيا لا يليق بمسؤول يحرك مؤسسة وطنية (كبرت أم صغرت)، بل يجب عليه أن يتحلى بالموضوعية، وينظر في مادة النقد، فإن كانت صحيحة؛ فعليه تعديل مساره لتجويد أداء مؤسسته، وإن كان النقد خاطئا، فعليه الرد وتجلية الأمور للناقد وللمجتمع، بعيدا عن البحث في شخصية الناقد ودوافعه، ومن المحمود أن وسائل إعلامنا كلها تتيح للجهة المنقودة حق الرد وتجلية الموقف.

ليس على هوى الإنسان أن يحاكم كل صوت بجدلية النقد والإطراء (التهجم والتطبيل)، بل هناك موجبات ومحددات للأحكام، ولا أنكر مطلقا وجود المتجنين أو المطبلين، لكن يجب أن نميز بين (الموضوعي والمتجني/ والمنصف والمطبل)، وهذا التمييز يحتاج إلى معايير موضوعية تعتمد على التقصي وإنعام النظر في مادة النقد لا في شخص الناقد، والبعد عن الأحكام الانطباعية السالبة، وكذلك البعد عن إسكات كل صوت ناقد، ففي هذه المرحلة خصوصا، نحن في أمس الحاجة إلى ماكينة إعلامية فاعلة منصفة، ولن تفيدنا الأقلام التلميعية، فالحسناء لا تحتاج إلى مستحضرات تجميلية، أما ضدها فإنها لاهثة وراء كل منتج يحسن صورتها للآخرين، ولا تصلح الأصباغ ما أفسد الفعلُ.

ahmad_helali@