محمد أحمد بابا

معذرة إلى جنائزنا

السبت - 19 يناير 2019

Sat - 19 Jan 2019

راجعت نفسي متذكرا من مات من الخلق وحضرت الصلاة عليهم في المسجد النبوي أو الحرم المكي، ومنذ صغري وأنا أراقب فضولا ما يجري منذ أن يموت الميت حتى يوارى قبره، وحيث درست كتاب الجنائز في الفقه منذ التعليم الأساسي حتى التعليم العالي وما في ذلك من بعض اختلافات مذاهب وأقوال، عرضت ذلك على ما يجري فوجدت أن دائرة التعامل مع الجنائز منذ الموت حتى الإقبار تتغير من حال لحال حتى وقتنا الحالي. في السابق لفت نظري الاختلاف في المناداة على صلاة الجنازة بين مكة والمدينة بألفاظ تؤدي ذات الغرض، لكن الصيغة تختلف كأن يقال الصلاة على الميت أو الميتة، وأن يقال الصلاة على الرجل أو المرأة، ولم أعرف حتى اللحظة عزوَ هذا الاصطلاح رغم أنه ثانوي البحث، وقبل فترة قصيرة لاحظت صدفة توحيد الصيغة بين الحرمين الشريفين لصالح ما كان ينادى عليه في مكة ولا أعرف أيضا ترجيح ذلك.

وقد جاء في الكتب أن المالكية يرون كراهة إدخال الجنازة للمسجد فدأبنا على تسمية موقع عند باب جبريل في الحرم النبوي (مصلى الجنائز) وكان لا يصلى فيه على جنازة إلا من يرى ذووها هذا الرأي، ودأب أغلب الناس على إدخال الجنازة للحرم المدني ومزاحمة الصف الأول حتى أنشأت الدولة الجزء الأمامي ليكون مصلى الجنائز ومكان وضع الجنازة فيه، والإمام يتقدم لها وكل من في الحرم يأتمون به، والإشكال بأن هذا المد والجزر هل وافق رأي المالكية وعاد من يرى غير رأيهم لرأيهم أم الأمر متعلق بالتنظيم ولما نجد تحرير محل ديانة وائتمار؟ ثم إن مقتضى الإسراع بالجنازة وتجهيزها عند من يرى ذلك جعل كثيرا ممن أعرف في المدينة لا يحرصون على انتظار الصلاة المكتوبة، بل قد يصلون على ميتهم بعد العصر لوجود سبب ويدفنونه دون انتظار المغرب، وآخرون يفضلون اجتماع الناس لعل في دعوة أحدهم ما يرحم الله به ميتهم فينتظرون بميت صباحا أكثر من سبع ساعات لوقت صلاة الظهر، وفي كون الصلاة على الميت دبر الصلاة المكتوبة ما يدعو للتساؤل عن العزوِ والبيان.

وفي اللحد والشق ما يقال، حيث لم يكن بمكة إلا المعلاة وهي ذات شق وأغلب من بمكة يدفنون موتاهم فيها استئناسا بمن فيها من الصحابة والتابعين والصالحين، حتى ظهرت مقبرة العدل وفيها شبه لحد وهو عند من يقول بأفضليته محبب لهم، والإشكال في كون الأفضل في الخطاب لذوي المتوفى أم هو أفضل للميت ديانة وراحة وأجرا؟ وهذا يستحق تمحيصا، لنصل إلى قراءة القرآن على الميت ثم نقضها بمحتسبين ينهون عنها في المقابر مستبدلين إياها بالدعاء للميت فحسب، وصب الماء ووضع جذوع الشجر ونحوها من الأمور التي لها بعض أصل ولها بعض إنكار، ولو دخلنا في موضوع رفع اليدين في تكبيرات الصلاة على الميت وصيغة الدعاء له ونحو ذلك لما كفانا هذا المقام قولا.

واليوم أقول: كيف لنا أن نعطي لمن مات حقه ومستحقه مما فرض الله له، بالغين أقصى مراتب الإكرام بالحق والدين ونحن مررنا بكثير من الأنواع دفنا بها موتانا دون أن يتشابه بعضهم مع بعض في فصول التجهيز والدفن؟ وكيف وقد غابت المبررات والتحريرات التي تجعل من هذا العمل الفقهي الذي خوطبنا به ذا أصل تكليفي من الدين بالضرورة في الجزئيات لا في المجموع؟

ولكن الذي أعتقده اليوم أن المسألة تكمن في المبدأ والنتيجة، فالمبدأ الإكرام والنتيجة مواراة الميت الثرى، وعلى أية حال وقعت هذه المسألة بعد الصلاة عليه فإنها مجزية بإذن الله تعالى في قول أظن بأن تبيينه للناس وتوعيتهم به من الضرورة بمكان، فالناس في الوقت الذي يدفنون فيه موتاهم أو يفقدونهم يحرصون على جزئيات وكأنها قاعدة من القواعد التي لو خالفتها نلت من مشاعرهم وحزنهم في توقيت حساس، وبما أن للموت رهبة ولموقفه مكانة وعظمة ذهول فالناس معه ليسوا في مناخ نقاش، وهم أرض خصبة لقبول ما ليس من الدين، ورفض ما كان من الدين في هذه الحالة الخارجة عن إطار بعض العقل على حسب قلوب الآدميين وإيمانهم. فحري بنا أن نلوم من سبقنا وعلمنا أن لم يبلغ بنا مبلغ التأكيد والحزم والجزم والتثبيت لموضوعات كثيرة تخص هذا الجانب إلا النزر اليسير الذي ينسى ولا يذكر.

وحري بنا أن نجعل من أحكام الجنائز في أبواب الفقه الأولى حين التعليم المناسب للعمر، لا أن تكون هي علامة تدين الناس إن كبروا فيعقدون دورات لكيفية غسيل الميت احتسابا في صورة تهابها الناس وتستهجنها، واعتذارنا لكل ميت مات عن خطأ ارتكبناه تقليدا أو عرفا من حيث لا ندري ونحن نزفه لمثوى سيكون يوما ما من يزفنا إليه.

albabamohamad@