ياسر عمر سندي

عندما كنت كبيرا.. وأصبحت صغيرا

الأربعاء - 16 يناير 2019

Wed - 16 Jan 2019

قد تتبدل السلوكيات وتتحول التصرفات لكثير من الشخصيات ولكن يبقى شيء واحد وهو ما أسميه «ميزان الرضا والقناعة الذاتي» لتقبل واقعنا أو رفضه. فمنذ فترة قابلت وبمحض الصدفة واحدا من الأصدقاء القدامى، كان يسكن نفس الحي الذي أسكنه ونتشارك ذات المدرسة في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، وكان لهذا الصديق القديم صفات وملامح نبوغ تجعله في مصاف الكبار من حيث الوقار والهدوء وحسن المنطق والخلق والحكمة والاتزان، إضافة إلى تفوقه العلمي والثقافي، وكان يتجاوز بعمره العقلي عمره الزمني بمراحل. ومنذ انتقال أسرته لمدينة أخرى وظروف عمل والده انقطعت العلاقات، إلى أن قابلته، وبالكاد استطعت أن أنقب عن ملامحه المخفية تحت سراديب مخيلتي لأستخرج صورته الذهنية القديمة من بين ركام أكثر من 30 عاما. وبدأت ألاحظ على هذا الصديق سلوكيات غريبة لم تكن تعتريه من قبل، حيث أصبح لا يهتم بمظهره ولا يبالي بكلماته وأفعاله وتصرفاته، حيث الصوت العالي المنفر والأسلوب والضحكات اللافتة للأنظار والألفاظ غير المستحبة.

بادرت بدعوته لكوب قهوة لنجتر سويا ماضينا الجميل ومواقفنا التي لا زالت عالقة في الذاكرة أيام المدرسة، والحي الذي عشنا وتربينا فيه، وأحلامنا التي كنا نتسابق في مخيلتنا لتحقيقها وكلنا أمل ووعود ذاتية أن القادم أجمل عندما نجتاز مراحلنا الدراسية ونتخرج في الجامعة، ونحقق آمالنا في الوظيفة والزواج وما إلى ذلك. وكلما زاد الحديث بيننا تتنامى لدي كثير من التساؤلات المحيرة لصورة هذا الصديق المحافظ والوقور والمفعم بالأخلاق، والتي لا تزال عالقة في مخيلتي وكأنها للتو تتعاقب كفيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني، ولكن تصرفات هذا الصديق القديم الحالية لا تتطابق نهائيا مع ما كنت عليه من سلوكيات محمودة وراقية.

لا تزال علامات الاستفهام واضحة على محياي حين فاجأني بسؤاله التهكمي: هل أصبحت في عينيك صغيرا يا صديقي؟ تألمت في نفسي كثيرا لعبارته وأيقنت أنه مستبصر تماما لما وصلت إليه من خلال مقارنتي السريعة بالماضي والحاضر، أو على الأقل لما أعرفه جيدا عن شخصيته المثالية. وأصبحت أتبسم متعجبا في صمت؛ ما الذي حدث لك وما الذي أبدل الحال؟ وعلمت من سياق حديثه أن أصبح تاجرا في أحد المجالات، وسمسارا كبيرا له اسمه ووضعه، وأن السوق يحتاج منه أن يكون أكثر حدة وسطوة ليتماهى ويتماشى مع من حوله، ولا يملك الوقت كي يعتني بمظهره الخارجي ويحافظ على مخبره الداخلي أو حتى يلتفت لهواياته القديمة، مثل القراءة والكتابة والرسم.

أصبحت موقنا أشد اليقين بأن سلوكياتنا وأخلاقنا تتغير حسبما نؤمن به ونعمله ومع من نعيش ونتعايش. وصدق رسولنا الكريم حينما قال «إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير..». والشخص عليه أن يراقب نفسه وشخصيته ويراجعها ويحاسبها كل فترة وبعد كل موقف ويتابع تصرفاته وأقواله، وأن ينتقي أصدقاءه من محيطه العملي أو الشخصي، فإن كان خيرا فخير، وإن كان عكس ذلك أسرع في التغيير للأفضل. قال تعالى «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». الرعد 11.

لأول مرة منذ بداية حديثنا همس لي صديقي القديم بهدوء بأنه يفضل أن تبقى شخصيته السابقة حبيسة صندوق الذكريات فقط، وأنه مقتنع بأسلوبه الجديد الذي تقمصه ولا يرغب بتغييره. واختتم جلستنا بعبارة أطلقها مدوية على مسامعي: يا صديقي أحلامي وسلوكياتي تلاشت عندما كنت كبيرا بأخلاقي وأصبحت صغيرا بتصرفاتي.

@Yos123Omar