محمد أحمد بابا

رغم أنف البعوضة

السبت - 05 يناير 2019

Sat - 05 Jan 2019

ستتجه الدول الكبرى مستقبلا لتنمية امتلاكها الطبيعي من (البعوض) ببرامج توازي تلك المخططات طويلة الأمد لتطوير الأسلحة الدفاعية أو الاستباقية، وربما يكون التشجيع على توفير المستنقعات المائية والبيئة المحببة لهذا النوع من الحشرات الطائرة مجالا واسعا للتثقيف البيئي رغبة في الاكتفاء الذاتي عن بعوض مستورد.

وحقيقة هذه المخلوقة الضعيفة في بنيتها والقوية في تكوينها وسلوكياتها ما يعرفه العلماء عن دورها في إزعاج الإنسان من عض ومص ولسع يخبر المصاب بأن عطش هذه البعوضة للدم يساوي مغامرتها بالاعتداء على جلود عارية أو وجوه صافية مغرية بدم من نوع فاخر.

أتذكر قبل عشر سنوات أن صحيفة تشرين السورية في عددها ليوم الأربعاء 2008/12/24 قالت: إن الشرطة الفنلندية استطاعت التعرف على سارق من خلال تحليل الحمض النووي لدم وجدته في بعوضة امتصت دم المجرم بسيارة أجرة كانت مسرح السرقة، فقلت: يدعوننا استفزازيا لأن نتوقع تسليط جيوش منظمة من البعوض لعمليات المراقبة.

فالقبض على تلك البعوضة أو العثور على جثتها في مكان الجريمة أدى بها لأن تعترف حية أو ميتة بمن قام بتعكير صفو الآمنين في سياراتهم رغم أنفها، فما زالت دماء المجرم بادية في وجبتها اليومية التي عثر عليها في بطنها.

وربما يتم ترقيم البعوض وتصنيفه وتدريبه لكي يكون أكثر طواعية لرغبة المهنيين في مجال التحقيق، وقد يتطور الأمر لتزويده بشرائح شفافة ورقائق دقيقة تعطي إشارات ذات دلائل رقمية عن طبيعة الجلد المستهدف فور إتمام عملية الامتصاص والعض، لتوفر على المراقبين البحث عن البعوضة المتأخرة عن التحليل الدوري نظرا لانشغالها بهموم منزلية خاصة.

وحين يستقر الحال على هذا الأمر يمكن للأمهات الحريصات على سلامة بناتهن من أعداء الطريق وهجمات المتحرشين أن يلزمن بناتهن بقليل من البعوض يقبع في حقائبهن المعتادة يستخدمنه في أحوال طارئة مثل هذه، ليضربن بذلك عصفورين ببعوضة واحدة، يلسعن بها ذلك المجرم ويضمنّ التعرف عليه مستقبلا في حال حدوث إصابات.

ولا غرابة إذن أن يتبنى الاتحاد الأوروبي الفكرة ويسلط أسرابا متناغمة من البعوض على حدود دوله مع العالم الآخر، وينشر فيالق كبيرة منه على شواطئه المتوسطية التي تفصله عن مهاجري الدول الأفريقية لمقاومة الهجرة غير الشرعية، ليتخلص من التكاليف المادية الكبيرة ضمن حملته لمحاربة هذه الظاهرة، فدماء المهاجرين والمتسللين وافرة وساخنة بسخونة طموحهم الثائر، قد يستلذ بها البعوض كوجبة طازجة وطبيعية.

وبدل أن تترسخ الفكرة القديمة والمتوارثة عن البعوضة أنها ناقلة لمرض الملاريا الذي أودى بحياة كثير من الناس في البلدان الفقيرة، سينحرف الاتجاه العام نحو توفير فرصة أرقى وأنفع للبعوض في التحايل عليه بنقل المعلومات من إنسان لآخر باستخدام نفس سلوكيات العدوى لتقوم الصلاحيات الممنوحة لتلك الحشرة الكترونيا بتحليل تلك النتائج وقراءة أحوال المشبوهين.

أما الأطباء الذين يمضون ساعات طويلة وأعمارا مديدة في البحث عن تحاليل لدماء يشكون في إصابتها بأمراض معدية على مدى زمني كبير فلهم أن يستخدموا العينات بشكل أوفر من خلال التحليل الفرضي للبعوض القادم من الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، ليتمكنوا من تحديد النقطة التي ينطلقون منها في حصر البقعة المستهدفة من وباء ما أو فيروس متكاثر.

وللسياسيين والدبلوماسيين أن يتبادلوا أنواعا متفرقة من البعوض لدى زياراتهم البروتوكولية ليضمنوا التعرف على جواسيس سريين قد ينتهزون فرص الإعفاء الدبلوماسي ويتسترون بزيارات رسمية فيكشفهم البعوض بتحليل حمضي قد يجرى يوما من الأيام من قبل البعوضة نفسها إن استجابت للتأهيل التقني.

وليحرص الجميع على أن يتأكدوا من هوية بعوضهم في منازلهم ومكاتبهم وسياراتهم وهوائهم الشخصي، حتى لا يكونوا عرضة لامتصاص عينة من دمائهم تصبح في يوم من الأيام مادة دسمة لاستخلاص أخبار خصوصية ومعلومات سرية تهدم جدران الصمت حول ما يحتفظ به الإنسان أو تحميه الخصوصية الإنسانية.

ولكن ما هو الحل المناسب إذا تعارضت تلك التوجهات مع مهمات البلديات والمؤسسات التي تعتني بالنظافة بمحاربتها الشرسة للبعوض والقضاء على كل المحفزات المناسبة لتكاثره وتوالده؟

وهل سنشاهد عراكا وصراخا وصياحا في برلماناتنا العربية حول هذه القضية بين مؤيد تخرج في كلية العلوم، ومعارض يعزو الأمر لمؤامرة من قبل الجهات المعادية، وبين آخر يلهو بآلة بلاستيكية في يده يقتل بها البعوض قبل أن ينصت لنقاش حول مصيره.

albabamohamad@