فؤاد العسيري

العوامل التي تجعل المدن أكثر قابلية للعيش

السبت - 29 ديسمبر 2018

Sat - 29 Dec 2018

تحدثت في مقالات سابقة عن التنمية الحضرية والتمدد الأفقي والتنمية المستدامة، واليوم سأتحدث عن أهم العوامل التي تجعل مدنا أكثر قابلية للعيش من مدن أخرى، وهو ما يعبر عنه بـ Livability وهو مصطلح له معايير موضوعية يمكن قياسها. ومعيار قابلية العيش مختلف عن مؤشر السعادة التي تعتمد غالبا على انطباعات السكان، ومن الصعب قياسها. قابلية العيش تعتمد إجمالا على توفر عوامل قابلة للقياس والتطوير لتتفاعل مع بعضها، وتكون بعض المدن ذات معايير جودة عالية للحياة، وتراكم تلك المعايير يخلق على المدى البعيد قابلية عالية للعيش، وسأتناول بشكل مختصر أهم تلك العوامل.

مشاركة اجتماعية أكثر وانعزالية أقل Social Sharing:

هذا مختلف عن الخصوصية الفردية، والمقصود هنا التشارك الفعلي في المرافق والموارد المتاحة للسكان في الحي أو الخدمات، وهذا يتطلب تقبلا وانفتاحا اجتماعيا، والهدف المباشر تقليل الأسباب التي تؤدي للهدر الناتج عن الرغبة الشخصية في تملك وحيازة موارد ومساحات أكبر عن الحاجة الفعلية، مع الحفاظ على الحق القانوني الذي يسمح بالتوسع للفرد، ولكن ضمن ظروف ومحفزات اقتصادية تجعله يختار طوعيا عدم التوسع في ذلك.

تعدد وسائط النقل العام Transit Modes:

وسائل نقل خفيفة داخل المدن مثل الترام وعربات النقل الكهربائية Trolleybus وأخرى سريعة تربط المدن ببعضها وتربط أطراف المدينة المتباعدة، وذلك يوفر فرصة تنقل آمنة ومنخفضة التكلفة لكل أفراد المجتمع، وبذلك تتحسن فرص التنقل للعمل والتعليم والعلاج للفئات التي لا تستطيع التنقل بالسيارة، وهذا لوحده يفتح لهم مجالات واسعة لتحسين نمط حياتهم.

ترابط المجال العام Public Realm Connectivity:

هو كل مجال متاح للعامة للحضور فيه دون إذن من مالكه أو المتصرف فيه، مثل الحدائق والساحات العامة والمتنزهات والشوارع وممرات المشاة والأرصفة والأسواق المفتوحة الشعبية أو الحديثة، ونعني بالترابط إمكانية التنقل بينها بأمان وسهولة دون استخدام السيارات لكل الأعمار حتى لذوي الهمم. والمجال العام هو الذي يعطي المدينة طابعها العام ويزيد عامل الجاذبية.

الاستخدام المختلط والمتنوع للمساحات Land Mixed-use:

في أحد مجمعات التسوق الشهيرة مساحة المواقف أكبر من مساحة المجمع، ومع الأسف هذه المساحة المهدرة لا تستخدم إلا لغرض واحد ولساعات محدودة في اليوم لا تتجاوز 5 ساعات. استخدام الصالات والاستادات الرياضية، والمرافق الحكومية ومواقفها، ومصليات الأعياد، وغيرها لغرض واحد فقط يشكل عائقا أمام زيادة الكثافة الحضرية إذا لم تستخدم لأغراض أخرى مع الغرض الأساسي، وفي برنامج جودة الحياة 2020 ورد في أحد مرتكزاته السماح باستعمال المرافق الحكومية لتمكين القطاع الخاص من استئجار المساحات الحالية وتفعيلها، وسيوفر ذلك ازدهار النوادي والعروض والمعارض والخدمات وزيادة تعدد الاستخدامات للمساحة وهو ما يزيد الكثافة الحضرية، وهذا مهم للغاية لتكامل عناصر زيادة قابلية العيش.

الكثافة الحضرية Urban Density:

متوسط استخدام الفرد في المنازل في السعودية 85 م2، و40% من مساحة المنزل تستخدم للضيوف 19 يوما في السنة في المتوسط، ولهذا أسباب اجتماعية لا بد أن تتغير. المعدل في أمريكا 77 م2، وفي الدنمارك 48 م2، وفي إنجلترا 33 م2، وفي السويد 40م2، (Shrink That Footprint, 2016) هذا يفسر نمط التباعد في المدن لدينا، حيث إن المناطق السكنية تشكل ما بين 70% و80% من مساحة أي مدينة. هذا يعني أن مدننا تشغل ضعف المساحة الطبيعية لها، ولهذا نرى استخدام السيارة ضرورة والمشي صعبا فكل ما حولنا بعيد عنا. والاعتماد الكلي على السيارة يفتح إشكالات عدة، منها زيادة السمنة، ففي أمريكا مثلا زادت السمنة لدى الأطفال 3 مرات من 1980 إلى 2012، وأحد الأسباب أن نسبة الأطفال الذين كانوا يذهبون للمدارس مشيا انخفضت من 50% إلى 15% بسبب زيادة تباعد المسافات، ونسبة وفيات الحوادث تزداد أيضا لأن السرعة والتهور ليسا العامل الوحيد، بل معدل استخدام الفرد للسيارة عامل مهم أيضا، ففي أمريكا نسبة وفيات الحوادث لكل 100,000 شخص هي 14.7 شخصا بسبب نمط التباعد في المدن الأمريكية عموما، بينما في ألمانيا 7.1 وفي إنجلترا 5.3 وفي اليابان 5.8 (Jeff Speck, Walkable City 2012)، بينما في السعودية 30 وفاة لكل 100,000 ولهذا فإن رفع معايير قابلية العيش يعد ضرورة قصوى وليس شيئا كماليا.

في المقال المقبل سأتحدث عن عوامل أخرى مهمة، ولكن أقل أهمية من العوامل أعلاه، مثل النمط المعماري التقليدي والتوازن الإيكولوجي، والتخطيط والإدارة المناطقية والتشجير.

FouadUrbanist@