صالح عبدالله بوقري

اختبار في اللغة

السبت - 29 ديسمبر 2018

Sat - 29 Dec 2018

كان العمل الإعلاني في المطبوعات ذات الانتشار الواسع من الأعمال المميزة اجتماعيا وماديا، وهو تخصص أدركت أهميته قلة من الناس الذين عرفوا أسراره وخفاياه وخطورته في العملية التسويقية، وتحديدا في مرحلة الطفرة التي عاشتها بلادنا في الثمانينات الميلادية، حيث انهالت الميزانيات الإعلانية من الشركات الأجنبية لتسويق منتجاتها بكل أصنافها الاستهلاكية منها والمعمرة، والتعريف بخدماتها في المجالات العامة والخاصة، ونشطت إثر ذلك الوكالات الإعلانية الوافدة من أوروبا وبعض الدول العربية، وقد أغراها تدفق ميزانيات الإعلان في السوق المحلي، كما بدأت الوسائل الإعلانية المطبوعة والمسموعة والمرئية مثل الصحف والمجلات ومحطات البث الإذاعي وقنوات التلفزيون، إضافة إلى إعلانات الطرق.

تطلبت هذه الطفرة التسويقية كوادر بشرية متخصصة في هذه الصناعة لسد الحاجة المتسارعة للحملات الإعلانية الدولية والمحلية وتشرفت أن كنت ضمن الذين خدموا هذه الصناعة عشر سنوات أعتبرها اليوم من الأفضل في تجربتي العملية والشخصية.

كنا يومها ضمن فريق العمل لمجموعة إعلامية مرموقة بصحفها اليومية التي صدرت بأربع لغات، ومشهورة بمجلاتها الأسبوعية والشهرية واسعة الانتشار ليس في المملكة فحسب ولكن في العالم العربي من المحيط إلى الخليج وفي كثير من دول أوروبا أيضا، بسبب كثافة الوجود العربي، خاصة في الصيف.

في خضم هذه الورشة الإعلامية التي تحتضنها مجموعتنا التي تعد قلعة النشر الكبرى التي تصدر ما يزيد على 14 صحيفة ومجلة في كل التخصصات ولجميع الفئات العمرية تقدم لوظيفة مصحح اللغة العربية موظف جديد للعمل ضمن فريق الشركة التي تعد الذراع التسويقي للمساحات الإعلانية في مطبوعات المجموعة، ووقع علي الاختيار من رئيس الشركة لإجراء اختبار قدرات الموظف الجديد نظرا «كما قال سعادته» إلى أني الأنسب في فريقه لهذه المهمة، وهذا حسن ظن منه ليس إلا.

دخل السيد المتقدم الجديد مكتبي هادئ المظهر متواضع الصوت ثابتا واثقا من خطاه ونفسه، أحسست عند دخوله بهيبة البساطة ووقار الثقة، كانت مهمتي في هذا اللقاء اختبار المتقدم السيد زايد الأذان «وهذا اسمه» في مستوى لغته العربية، وقياس قدرته في تصحيح النصوص الإعلانية التي يصممها القسم الفني.

قضيت مع السيد الجديد قرابة الساعة استخدمت خلالها ما عرفت من أساليب التقييم العملي والنفسي ما استطعت، مأخوذا بمعرفتي اللغوية، متباهيا باختياري من رئيس الشركة بصفتي الأفضل في اللغة العربية، وكان زايد الأذان مستعدا في هدوء لكل ما أثرته في هذا الاختبار الذي كان شفويا أكثره أو كله على ما أذكر، ثم مضى يلفه الهدوء لينتظر اتصالا من إدارة الموظفين الذين تسلموا ملاحظاتي بسلامة لغته ومناسبته للعمل كمصحح في القسم الفني بالشركة.

وبعد يومين من هذه المقابلة وهذا الاختبار الذي أخرجت فيه ما قدر الله لي أن أعرف من نحو وصرف وإعراب وتصاريف لغوية وبعض الشعر (اكتسبتها من القراءة والكتابة والسماع والشغف باللغة)، راجعنا السيد زايد الأذان وبعد أن تسلم خطاب تعيينه جاء إلى مكتبي ومعه هدية في حقيبة عرفت وهو يخرجها أنها مجموعة من الكتب تجاوزت الخمسة، ووجدتها جميعها في فقه اللغة والنحو والصرف وعروض الشعر، ولكن الذي فاجأني في الهدية ومن المتقدم الجديد أن جميع الكتب تحمل اسم المؤلف، وكان ممهورا على أغلفتها اسم المتقدم للوظيفة

«تأليف زايد الأذان»، وما زال الإحساس بهيبة البساطة وتواضع العلماء يغمرني كلما تذكرت الموقف حتى بعد أكثر من عقدين من السنين، فلقد كان من الأولى أن أكون أمامه في موقف التلميذ ولا زلت كذلك أمام وقار معرفته.