خالد العماري

الوعي المعلق

الخميس - 27 ديسمبر 2018

Thu - 27 Dec 2018

الوعي قائم على التجربة الذاتية المشروطة بالحرية والاختيار، بمعنى أن وعينا ينمو ويتطور نتيجة عدد من العوامل، أهمها على الإطلاق دخول الفرد الحر المختار في ممارسة واقعية تواصلية متعلقة بهذا الموضوع أو ذاك؛ ولذا قد تقرأ عن وجهة سياحية جديدة، عن مكانها على الخريطة العالمية وعن طقسها وجغرافيتها ومعالمها وتاريخها، فيتكون لديك وعي لا بأس به، لكن سفرك لهذه الوجهة فعليا، وإقامتك وتنقلاتك بها، وما يحتف بذلك ويرتبط به من علائق ومواقف وأحداث، هو ما يسهم في صناعة الجزء الأهم من وعيك الذاتي بهذه الوجهة، ليس فقط لأنك سمعت وشاهدت مباشرة وعن قرب، بل لأنك فعلت وانفعلت وتفاعلت، وفكرت واحترت واخترت، وتمتعت بحرية في المفاضلة بين الأشياء والعلاقات والأفكار داخل هذا الظرف الجديد الذي نزلت به.

في التجربة الذاتية الواقعية يحدث نوع من التفاعل الحيوي بالمكان والزمان والحال والأجواء والأشياء والأطعمة والروائح والأزياء والوجوه والكلمات والنمنمات والزركشات التي تؤثر بمجموعها في انطباعك عن هذه الوجهة وناسها وكل ما فيها.

هذا هو وعينا، وهذه هي تجربتنا الطبيعية في الوعي، فماذا عن الوعي المعلق؟!

«الوعي المعلق» مصطلح مركب، يحلو لي أن أطلقه على ظاهرة فكرية اجتماعية، يمكن ملاحظتها في أي مجتمع، أيا كان دينه ونمط حكمه وحياته، وذلك عندما يرتبط مجموعة من الأفراد داخل هذا المجتمع بمشروع فكري منظم، له رموزه وثقافته وأولوياته وتحيزاته، يرتبطون به برابطة عميقة في فترة ظهوره وهيمنته وعندما تكون الظروف مواتية له، قد يستمر هذا الارتباط عقد أو عقدين أو ثلاثة، ثم تتغير الظروف ويختلف الإيقاع العام للمجتمع فتتزعزع هذه الهيمنة، وتترنح، وتتراجع، وربما تذرها الأيام والظروف الجديدة كالمعلقة، إما لغلبة مشروع آخر، أو لتجاوز الجمهور للنخب، أو لانتهاء العمر الافتراضي المقدر لهذا المشروع، أو نتيجة لتطورات هائلة في السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا. وبما أن هذا الظاهرة بشرية بامتياز، فلا يمكن الحديث عن فناء مفاجئ لهذا المشروع، أو موت جماعي لأصحابه، أو فقدان ثقة الممول له بشكل نهائي وحاسم، ولكن الذي يحدث هو نوع من التباطؤ الفيزيائي الذي يمكن قياسه ماديا ومعنويا، سواء بعدد الأفراد والمؤسسات، أو بحجم الأموال والمشاريع، أو بكمية ونوعية المنتوج الفكري، أو بالانفتاح القسري وتجيير المنجزات لمصلحة المجتمع، أو بتفلت العناصر المميزة عن هيمنة القادة، أو بفك الارتباط الوظيفي وتحلحل شبكة العلاقات لهذا المشروع أو ذاك.

مع هذا التباطؤ الزمني، والانحسار الجغرافي، والتراجع الفكري، وتضعضع الثقة في قدرة الرموز ومنظومة الأفكار ذاتها على تجاوز الحاضر والمشاركة في صناعة المستقبل، عندها يحدث للاتباع الموالين، خاصة ما يمكن تسميته «الوعي المعلق»، ولا أتكلم هنا عمن هم في حكم العامة والمقلدة، بل عن الاتباع المثقفين والمعلمين والمتعلمين الذين ارتبطوا بهذه الأيديولوجيا برباط وظيفي ومعرفي وروحي، ضيق مساحتهم في تجربة الوعي الذاتي لمصلحة وعي المجموع.

«الوعي المعلق» تعبير عن اضطراب في تجربة الوعي لدى كثير ممن تعلق بمشروع فكري يعيش مراحل ضعفه وانحساره، أو يمر بانعطاف تاريخي لا يسمح له بالعبور بنفس جواز السفر وبذات الحمولة.

اضطراب الوعي ليس مشكلة، بل هو مفتاح الوعي الجديد، لكن مشكلة أصحاب «الوعي المعلق» أنهم يحكمون على الزمان بالفساد أولا، وعلى أصحاب الجولة والدولة ثانيا، وعلى من يحاول إنقاذهم أو الحوار معهم ثالثا؛ ولذا يفقدون الثقة فيما يثق الناس فيه جملة، ويحصل لهم نوع ارتداد فكري، فيرفعون اجتهاداتهم الظنية إلى رتبة القطعي المحكم، وتتحول أذكارهم إلى لعنات، وكلماتهم إلى همهمات، وتصريحاتهم إلى إيماءات، ويزداد الحال سوءا لو كان هذا المشروع مرتبطا بالدين، عندها يرفع الأتباع شعار «إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض»!

إن أول نصيحة لأصحاب الوعي المعلق أن يقال للواحد منهم هذه أكبر فرصة لك للعودة للذات بصدق، ولإعمال النقد والمراجعة، وللخروج للحياة والناس بوعي جديد.

ما لم تكن لديك القدرة على الخروج الذهني من أسر منظومة ما، فلن تستطيع التفكير خارجها، ولن تستطيع استيعاب ما يحدث، ولن تتمتع بمساحة الحرية والاختيار التي منحها الله لك، ولن تتعظ بتاريخ الأفكار وتجارب الوعي وسيبقى وعيك معلقا بلعل وعسى!