عبدالله الأعرج

هل بات الإعلام صنعة من لا صنعة له؟

الاحد - 09 ديسمبر 2018

Sun - 09 Dec 2018

في فترة ما من حياتنا الثقافية شكل الإعلام رافدا معرفيا صلبا للاستزادة من كل جميل، وذلك من خلال أدواته الصلبة كالراديو والتلفاز والصحافة والمجلات، ولذلك فإنه لم يكن مستغربا أبدا أن تشيع حالة الانتظار - على جمر النار - لمقال يكتبه أحد الكتاب المرموقين أو تحليل لأحد المحللين أو حتى تقرير لأحد الصحفيين، نظرا لما عهد عنهم جميعا من مهنية عالية في إرضاء ذوق المتلقي وإبهار المشاهد والقارئ والمستمع على حد سواء.

كانت الأسماء الإعلامية أشبه بالماركات العالمية، بحيث تعرف بعض الصحف بكتاب معينين، وبعض البرامج التلفزيونية بقامات إعلامية معتبرة، ومثلها أعمدة المجلات وبرامج الراديو عبر الأثير، الأمر الذي كان كفيلا بجعل الأسر تنتظم كالبنيان المرصوص أمام شاشة التلفاز أو حول الراديو انتظارا لطلة إعلامي ما يأخذهم إلى عالم من الكمال والجمال لبضع دقائق ثم يتركهم وقد أشبع ذائقتهم وأرضى شغفهم واستزادوا من حضوره الباهي معرفة ومتعة في آن واحد.

هذه الأسماء الإعلامية الكبيرة صمدت عبر الزمن وتخطت كل حواجز واختبارات الثقة إلى أن أصبحت مراجع يستشهد بها العامة والخاصة في مجالسهم، مصلين على أرواح من غادر الدنيا منهم وداعين بطول السلامة لمن بقي بيننا منهم، بل ومؤكدين أن تستفيد الأجيال الإعلامية الجديدة من هذه المدارس المتمثلة في أشخاص غير اعتياديين صوتا وصورة وحضورا وهيبة!

وجاء العصر الحديث فانفجرت مصادر الإعلام من كل حدب وصوب وزادت ثورة الويب وخدمة الانترنت من تنوع مصادر استقاء المعرفة الإعلامية، فتنوعت وسائل التواصل الاجتماعية وتعددت منابر المتكلمين وتحدث الجميع - بعلم أو بغير علم - كما يتحدث الكبار حتى ظننا ونحن نتجول بين وسائل التواصل أن كل الناس إعلاميون وكتاب ومؤلفون وحكماء ورواة وقاصون ونقاد ومحللون، بل لعلي أقول إننا أصبحنا نشعر أننا في مدينة إعلامية يختلط فيها الغث بالسمين ويضيع بأزقتها الجيد مع المغشوش!

ومع تفهمي لحق كل فرد في إبراز موهبته الإعلامية وتنمية قدراته الكتابية والخطابية إلا أن حالة الخلط بين المتمكن ومن هو في طريقه للتمكن، والنظر إلى الحالتين بذات القدر من الأهمية، بل إن الثاني قد يتجاوز الأول قدرا في بعض الأحيان، أمر يبين إلى أي حد اختلت المفاهيم الإعلامية وفسد المزاج العام، بل وبدأت أسس الصنعة تتهاوى لتحدث حالة عارمة من الفوضى مردها منابر إعلامية من قش صنعت نجوما بلا سماء وعروشا بلا كراسي، فكانت النتيجة ما نراه من هبوط في مستوى الذائقة العامة لدى كثيرين، وتقديم للمفضول على الفاضل، لنصل في النهاية لحالة من السخط تظهر على شكل عبارات تتذكر القديم فتنعيه وتقيسه مع الجديد فتبكيه!

وتماشيا مع هذا السياق قرأت تغريدة لإعلامي مخضرم يتحدث عن خبرته الإعلامية فيقول ما معناه «عملت في الإعلام لأكثر من 40 سنة وفي دول متعددة ومن خلال منابر متنوعة ولم أصف نفسي يوما بأنني إعلامي، في الوقت الذي لا يتردد فيه شباب صغار بوصف أنفسهم بالإعلاميين لأنهم أمسكوا بالمايك مرة أو كتبوا مقالا مرتين»!

ولأن الإعلام يشكل الأرواح فتستجيب لها الأجساد فإنني أعتقد أن تنظيم هذا الأمر أصبح مطلبا ملحا أكثر من أي وقت مضى، وقد يأخذ هذا التنظيم شكلين أساسيين: أولهما التقنين، وذلك بإصدار ما يمكن تسميته (شهادة إعلامي) بحيث يكون فيها تصنيف حقيقي لموقع المنتسب لهذه الصناعة من خارطة العمل الإعلامي، فقد يكون إعلاميا مبتدئا أو متوسط الخبرة أو خبيرا، ويتم التعامل مع الإعلامي وفقا لهذا التقسيم. وثانيهما: العقوبة لمن ينتسب لهذه الصنعة دون وجه حق، وذلك بالإيقاف أو التشهير أو التغريم، لأنه لا يمكن بحال القبول بترك إعلامي (وهمي) يعيث في عقول الجمهور من خلال أي وسيلة، مما سيفضي لاختلال موازنات كثيرة في الحياة الفكرية للأفراد والجماعات، ونشر رؤى تتدرج من الخطورة إلى التفاهة، وربما تخلق حالة من الإجماع أن هذه التفاهة هي التمثيل الحقيقي والخيار الصائب للمجتمع بكل أطيافه ومكوناته.

بقي لي - في الختام - أن أشير إلى أن الإعلام البائس والإعلاميين البائسين تماما كفقاعة الصابون، ينتشون ذات دقيقة ويذهبون في الوقت نفسه. نعم قد يكون هنالك إبهار وجذب مؤقت لكنه ما يلبث أن يضمحل حينما تشرق شمس الإعلام المتين والقويم الذي يستنير الجميع بنوره، ليودعهم عند المساء مع وعد بعودة بذات الألق والبهاء مع شروق اليوم التالي، فينتظره كل أحد، ولا عزاء للبائسين!

dralaaraj@