محمد أحمد بابا

إعادة تدوير التورتة

السبت - 17 نوفمبر 2018

Sat - 17 Nov 2018

قد قيل «إن الفاضي يعمل قاضي»، فوجدت أنه أحيانا الفاضي يعمل لقمة قاضي، وأحيانا الفاضي بدون مقاضي.

خطر على بالي (بقايا الطعام) وتذكرت جارة لنا بعد كل وجبة دجاج تنتقي بقاياه فرزا وتنظيفا ثم تضعه في الثلاجة حتى يأتي وقت يصبح ذلك الدجاج المخزون قوت اختراع لوجبات لذيذة يحبها الصغار.

وقال لي أبي بأنهم كانوا - في زمن ماض - حريصين على «العيش الناشف» يقطعونه أوصالا ويضعونه في إناء يحلبون عليه ضرع عنز لهم فيتعشون عشاء في نعيم مقيم بالمدينة المنورة.

وأذكر صديقا لي كانت زوجته تأخذ قطع «عيش الصامولي» اليابسة وتدهنها ببيض مخفوق وتقليها في زيت الزيتون حتى تصبح تلك القطع لذيذة وتقرمش.

كذلك أحدهم أخبرني بأن بقايا الأرز في الخليج العربي لو حفظت بتقنية متطورة تكفي لإطعام ربع جياع أفريقيا مائدة من سماء توجيه رباني تكون عيدا لأولهم وآخرهم لو فعلنا.

فنويت يوما أن أطرح فكرة مبادرة بعنوان (ترميم الكيك)، والهدف منها الاستفادة من الهدر الكبير لأنواع الحلويات (التورتة) بالذات في كل المناسبات، فطبقات وأشكال (الكيك) تختلف طولا وضخامة بحسب مناسبة يقيمها جيب من جيوب الموسرين.

من الممكن ترميم تلك (الصنائع الحلوية)، ولو كسبنا دورا من أصل عشرة أدوار، أو حولنا شكلا لآخر، من خلال عمل فرقة تدخل سريع مكونة من ماهرات وماهري صناع الحلويات بعد فراغ المعازيم من ضجة قطع (الكيك) والمزمزة منه.

تهذيب المستعمل والمحافظة على الطري وتحوير المطبوخ وتنقية الجاهز ليست بالأمر الصعب في بقايا الطعام، ثم بعد هذه العملية ما تبقى فالحيوانات تحتاج لقمة هنية سائغة نظيفة من غير من ولا أذى.

ولقد مر زمان كانت أعواد الملوخية بعد قطف أوارقها، وقطع البطيخ بعد أكل جوفه، وغير ذلك أجمل وألذ ما تنتظره الماشية والأنعام وهي ترافق الأهالي سكنا ومأوى.

أعرف فقيرا شاهدته في أحد مقاهي عالمنا العربي يعدل مزاجه من بقايا قهوة يتركها الزبائن على طاولاتهم، ولا ألومه، فبقايا تتركها هي أمل آخرين.

في أحد السجون يقوم المساجين بالاحتفاظ بلبن الزبادي المتبقي بعد استعمال بعضهم ويجمعونه حتى يصلح لأن يضعونه في (فنيلة بيضاء) غسلوها جيدا ليتم تقطيره كألذ (لبنة) تنتجها أسواق الشام.

كذلك فإن قوما جمعوا (نوى التمر) ثم هرشوه طحنا متوسطا ثم خلطوا به سكرا ونقعوه في ماء وبردوه فشربوه هنيئا مريئا.

قول ربي (بقية مما ترك آل موسى وآل هارون) تشعرنا بأن لبقايا الأشياء لذة ولو نهل منها سابقون.

وأعرف نكهة (للبامية) و(الملوخية) المطبوخة المتبقية بعد أكل والتي وضعت ليوم أو اثنين في الثلاجة ثم سخنت وأكلت مع عيش حار، فيا لطعمها خرافة سحر.

ربما لو قاد أحدهم (حملة البقايا) لـ:

- صنع من بقايا طوب وحديد وتراب واسمنت المقاولين سكنا.

- صنف من بقايا أفكار الشعراء والفلاسفة والكتاب والمثقفين مرجعا.

- أنشأ من بقايا قصاصات الخياطين أطول مفرش سفرة في العالم.

- بنى من بقايا (فتلات) شاهي - أبو فتلة - ممرا ذا متانة عالية فوق بحر العرب.

لكن - بصدق - بقايا الطعام تحتاج فكرا وحسن تدبير حتى تصل لبطن طواه الجوع وأنهكه الانتظار، وبقايا البن تصلح لعلاج الجروح، وبقايا الهيل تصلح لإيقاظ المخدرين.

ودرسونا قديما جدا أن أساس النفط والبترول بقايا الإنسان والحيوان.

albabamohamad@