محمد أحمد بابا

أنا حامل

السبت - 27 أكتوبر 2018

Sat - 27 Oct 2018

بداخلي حمل ينمو ولا يكتمل، حتى إذا جاء المخاض وجدته يحتاج راحة بال عند آخر يعتبر حملي غدر استدراج.

بداخلي كثير من بدايات تلقيح تحوم فيها فكرة ذات نشاط لو اهتدت لعنفوانها وقت ألق لصنعت منها ثورة حقائق.

بداخلي أحشاء نغم وثيرة الحفظ، حين أبسط مساحتها أجدني في رغبة شديدة للبكاء استجابة لنفسيات وحم.

بداخلي فلسفة هوس بتغيرات تكوين استحكمت من أخلاقي فكرهت ما أحب، وأحببت ما يسوء والوجع قاتل.

بداخلي توأم أجنة للمفارقات، يأكلان قواي عن طيب خاطر، وأجوع حتى أفقد شهيتي للكلام المنضبط فألد وهما.

- فحصت نفسي فوجدتني حاملا.

- أبعد الخوف يحمل الرجال؟

- أم بعد اليأس تجهض الأرحام؟

بداخل كل منا ما يريد قوله، وما لا يريد البوح به، وما يفكر فيه، وما يخشاه، وما يأمله، وما يترقبه أو يتوجس منه، ولكنه كذلك بالتأكيد داخل كل منا أفكار لم تكتمل، وأفكار اكتملت ثم أجهضت، وأفكار تتعاقب دونما تلقيح، وأفكار بنيت على حمل كاذب.

ما الحمل في بطون الأمهات إلا فلسفة استقبال ومعالجة معطيات، ثم نمو فكرة حتى اكتمال توصيف، فولادة مشروع جاهز للتنفيذ إن توفرت البيئة المناسبة لذلك.

حين يحدث الحمل تتغير النفسية لأنها في لحظات بناء وكتابة للتاريخ، وحين تسطع الفكرة في رأس أحدهم تتلون الروح والدواخل بألوان الشحوب رغم الفرح، وتكسو المفكر ثياب رثة رغم الغنى بما يصنع، فنسيان الذات وقت المقتضيات سنة الحمل.

قليل من الصبر وقت (الوحام) ينقلنا لمرحلة المراقبة والمتابعة والتدبر، بل والعناية بالفكرة لتكون بشرا سويا أو مادة تفيد بشرية سوية.

ولو جاء وقت التدشين لانطلاق فكرة كانت نطفة ثم علقة ثم مضغة فلن ألوم أبدا اضطراب مفكر ولا تردد صانع ولا سكوت مبرمج ولا حتى بكاء فرح غير مصدق أو ألم متعب من مدة تفكير، فترتيب فصياغة فبحث فعمل جاد في صبر ثم إلقاء.

مريم في القرآن قالت عندما جاءها المخاض (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) وتلك لحظة فارقة، لكنها في بدايات رعاية (اتخذت من دونهم حجابا) وحمل الأفكار ابتداء ربما هو في حاجة للسرية، خاصة في أجواء تسرق كحلا من عين.

وعندما ينتشر الإجهاض النفسي لحاملي فكرة فثمت مشكلة واجهوها ففضلوا استرضاء الراحة بالتخلي عن الجنين، وإذا انتشرت ظاهرة العقم وتأخر الحمل بأفكار خلاقة فالشك في واردات المعرفة حري بالبحث والتفتيش، وأما أن يدعي إنسان فكرة أنه هو أمها وهو أبوها فذلك عين مخالفة الحقائق والوقائع.

ومن الأمور التي وجدتها وأنا أحمل وأجهض وأحمل وألد خديجا أو معوقا أو ميتا أو سياميات أفكار أن الدفع بعجلة الإحباط والكسل وعدم الرغبة في الاقتراح أو الطرح أو المشاركة في تأجير الأرحام لحمل الأفكار بات حثيثا في عالمنا العربي بسبب صدمة نفسية كبرى حين يقال لك كلاما أو لسان حال: من أنت حتى تحمل - أقصد - تقترح؟

أنا حامل في الشهر نصف الثالث، لكن أين هي مستشفيات ولادة الأفكار تستقبل جنيني؟

جملة (أنا حامل) الاسمية مثل جملة (لدي فكرة) الاسمية كذلك، فمفاد الخبر في الجملتين أن هناك شيئا منتظر حدوث، أو أن هناك ضيفا جديدا قادما، سواء كان ضيفا جسديا سيحمل فكرة يوما من الأيام، أو ضيفا معنويا في عقل من كان حملا يوما من الأيام.

والإنسان حيال سماع الجملة الأولى صاحب تغير وتعدد في الطبائع والشرائح التعاملية، فمنهم من يفرح فيصدق، ومنهم من يصدم ويلطم، ومنهم من لا يبالي، ومنهم من يبتسم ويمضي، ومنهم ذلك الإنسان الشغوف من يشكر ويحمد ثم يساعد ويرعى، ثم يعين وينتظر، وما الجملة الثانية (لدي فكرة) من ذلك ببعيد.

العناية بالحمل حين العلم به هي احتياطيات ولادة طبيعية لإنسان مكتمل التكوين خال من العيوب والأمراض العقلية والجسدية، والعناية بالأفكار حين العلم بها سمة الأمم النشطة والمجتمعات التي تصنع المعرفة وتبتكر الحياة وتبدع في كتابة الحضارة.

albabamohamad@