محمد أحمد بابا

مترجم وعينه قوية

الاحد - 21 أكتوبر 2018

Sun - 21 Oct 2018

لأنني لا أفهم اللغة الأجنبية إلا ما يقال من مفردات على بطء ومهل كمشي السلحفاة كلمة كلمة، أحتاج لأن أصغي للترجمة الفورية عند مشاهدتي لشخصية أجنبية تتحدث في الإعلام، وبالأخص في مقابلات يمكن الاستفادة منها، لكني ورغم عدم الثقة المزروع في داخلي تجاه كل من يقول كلاما عن آخر، ربما أرتاح لمترجم يحمل مهنية ومسؤولية وحيادية تجاه ما يترجمه من أقوال المتحدثين.

أحاول أن أتفنن في اختيار المترجمين، وربما اختيار القناة التي تروق لي، وأثق بها لا لشيء سوى لارتياح نفسي أنهم يقولون قريبا من الصدق لأذن مثل أذني التي تميز بين حقيقة اللغات بحاسة (تاسعة) اسمها التخمين، وحين تعلق الأمر بترجمة لغة الإشارة للصم ونحن نرى حركات ذلك الأصم ونسمع المترجم يتحدث نيابة عنه وهو جالس بجانبه راعني موقف تخيلته كثيرا.

ولصلتي المتواضعة مع ذوي الاحتياجات الخاصة ولغة الإشارة بالتحديد أحسست بكثير من الظلم يتعرض له هؤلاء ليس على صعيد الإهمال وعدم توفير الاحتياجات الضرورية لمثل إعاقاتهم، ولا على صعيد إعطائهم حقوقهم المادية والمعنوية وانخراطهم في المجتمع كجزء منه شئنا أم أبينا، بقدر الجور والحيف الذي يمارسه هذا المترجم في ترجمة حديث أصم مغلوب على أمره.

كان الأصم وبلغة الإشارة يقول كلاما عميقا مؤثرا، ويحلل تحليلا منطقيا مهما عن معاناة الصم بالعالم العربي وكيف أنهم يتعرضون لكثير من الخلط وعدم التنظيم في توحيد لغة الإشارة وفق القاموس العربي الجديد، مما يجعل تلقي الصغار والكبار منهم للتعليم أمرا في غاية الصعوبة والحرج، إلا أن صاحبنا المترجم كان يقول كلاما فارغا ليس فيه أي مضمون، بينما يشير الأصم ببراعة وجودة وذكاء في إشاراته التي فهمها الياباني والسيرلايوني قبل العربي والأسترالي.

إذن لقد فرض هذا المترجم وصاية قهرية على حديث الأصم لأنه الوحيد في ذلك الاستديو القادر على إيصال كلام عبثي للمستمعين والمشاهدين دون أن يراعي حقوق الأصم ولا حقوق النقل المحفوظة كقاعدة أخلاقية عالمية، ولا الأمانة العلمية والشهادة التي يحملها للغير ويعلم علم اليقين أن من يكتمها فإنه آثم قلبه وعمله ومصيره، وكأن التقول على هؤلاء الذين أفقدهم الله نعمة أنعم بها علينا جائز ومنطقي، بل هو الأفضل لأننا نعبر عنهم ونعلم ما في ضمائرهم وما هو الأحسن لهم وما يليق بأن يقال على الملأ وفي الفضائيات وهم لا يعلمون، لأن فقدهم للنطق أفقدهم الأهلية حتى في ترجمة سليمة تنقل عين الحقيقة فيما قيل.

تذكرت هنا فيلما مصريا جسد فيه نور الشريف شخصية الأبكم الطرف في قضية تحرش جنسي، وفي المحكمة تقوم معالي زايد بالترجمة الخاطئة المقصودة لشهادته دون مراعاة ليمين أو قسم أقسمت عليه قبل الإدلاء بترجمتها، وقلت لنفسي: يبدو أننا نعيش في فيلم سينمائي طويل في حياة يفتقد فيها غير الأبكم وغير الأصم لحقوق الترجمة الحقيقية لحديثه وكلامه ونفتقد نحن معه للفهم الصحيح من تدليس وتزوير بعض من يترجم لنا، فما بالك بهؤلاء الفئة الذين فرض عليهم الزمن أن يرضوا بالقليل، فيكفيهم أنهم يمارسون الإشارة، على الهواء مباشرة.

وكما أن المستشار مؤتمن، والناقل للخبر مؤتمن، والشاهد مؤتمن، فإن المترجم مؤتمن مؤتمن مؤتمن، وإلا ضاعت الحقوق، وكنا قوما يستغل فينا الناطق بكم الأصم، والمبصر عمى الضرير، والمتحرك سكون المشلول، والمترجم المزور من لا يفهم لغة ما ليكون الحلقة الأضعف.

وبدت لي عادة سلبية في بعض تعاملنا مع متحدث نستنقص قدره وقدرته، أو متلق نستنقص جهله بلغة قوم، فنحن نترجم كلام آبائنا وأمهاتنا المسنين لزملائنا وزوجاتنا وأولادنا زعما منا أن كلامهم خرف يحتاج ترجمة، ونترجم كلام أطفالنا لمن نلتقي بهم في الأماكن العامة سيطرة منا على الوضع الذي نظن أنه محرج لنا في عفوية طفل نعتبرها وقاحة، ونترجم كلام النساء للبائعين والأطباء والمهندسين زعما منا أن في ذلك محافظة، لكن هل نحن ننقل الحقيقة؟

والله يقول على لسان موسى عليه السلام «وأخي هارون هو أفصح مني لسانا»، ويقول «فأرسله معي ردءا يصدقني» ولم يقل يتقول علي أو يترجم كلامي كذبا، وصاحبنا مترجم الإشارة هذا مضى في ترجمته التي أعد لها لباسا زاهيا وبزة ذات ألوان صارخة وعيونا ساحرة الرؤية لكنها لا ترى سوى ما أوحاه له ضميره وباعثه: أن ترجم بعين قوية ولا عليك من أحد.