محمد أحمد بابا

الغدد الصماء.. اشتغل وأنت ساكت

السبت - 13 أكتوبر 2018

Sat - 13 Oct 2018

العمل في صمت لا يعني ألا تستفسر ولا تبدي اعتراضا، لكن ثقافتنا العربية في القرن الأخير (اشتغل وأنت ساكت) كأنها تسهم في حماية البيئة من ضجيج المستفسرين، وربما قد نجحت أن تجعل العمل بصوت غاية في التهور.

هناك شركات تعلن عن سيارات فارهة صوت محركها لا يكاد يسمع، وعن مكيفات بدون صوت، فالمكيفات والسيارات تعمل وهي ساكتة.

لكن الغدد الصماء في جسم الإنسان أكثر براعة في هذا النسق وتطبيق نظرية العمل في صمت، فهي تفرز تلك المواد الهرمونية وتقذف بها في الدم دون وجود قنوات توصل هذه المواد بالمعيار المادي المعروف، متخذة أقصى درجات الاحتياط في الصمت وعدم الكلام، فهي لا تسمع أصلا توجيها من جهة أخرى.

ارتبط لدينا أن (الأصم) الذي لا يسمع في الغالب لا يتكلم، ورغم وجود حالات شاذة نطقوا قليلا بعد عناء تعليم إلا أنهم في غير حاجة لذلك، فهم يعملون في صمت، فلا تأثير لعوامل خارجية من أوامر أو انتقاد أو حتى إطراء تدعوهم ليتكلموا، فهم فئة من أكثر الناس إنتاجا.

في حياتنا كثير من الضجيج دون فائدة، وكثير من الكلام دون نتيجة، وفيها أيضا صمت اختياري، كما أن حياتنا العملية تحمل كما هائلا من مطالبة كل من يعمل معنا بقاعدة مدوية (اعمل وأنت ساكت).

يا لجمال (الغدد الصماء) في المفهوم الطبي، فهي تستقبل الإشارات بإنتاج الهرمونات فتقوم بإنتاجها وإيصالها حالا دون أي ردة فعل عربية، لماذا؟ وكيف؟ وأين؟ وكم؟

فهي مدربة وعالمة بما تفعل وهي ساكتة صماء، تقوم بما عليها غير آبهة باعتراض (بينكرياس) ولا بخطاب تقدمه (المرارة) ولا بطلب تأجيل ترسله (المعدة) مستمرة في إنتاجها حتى تموت أو تتقاعد.

الكلام في وسط الطريق المؤدي للنتيجة نوع من المخاطرة نحو نتيجة لا ترضي، ونحن دوما نتكلم بل نصدر تقريرا وقد نحاول التنبؤ والفلسفة والتقييم والعمل ما زال في بدايته وربما لم يبدأ بعد.

عالمنا السياسي والاجتماعي والثقافي اليوم لا يعرف الصمت، كما أنه حين يتكلم لا يعرف الكلام، وحق للمثل الخليجي أن يصدق عليه وعلى أفعاله وأعمال شخصياته (يا زينك ساكت).

لدينا في مجتمعاتنا (غدد) كثيرة، بل ومليئة بقدرة هائلة على إنتاج (هرمونات) ذات فعالية جبارة في كل اتجاهات هذه الحياة، ولكنها ليست (صماء) أبدا، لا تعرف أن تسكت ولا ألا تسمع، بل تعطل نفسها بنفسها، وتعمل ذاتيا على هضم حقها في الجود بكثرة الكلام، حتى إنها تتعرض للتضخم القاتل بسماعها لكل مرجف وكذاب.

يظهر جليا هنا أن عدم وجود (قنوات) هو سبب (الصمم) الذي كان سمة الغدد التي عليها يرتكز كون الجسم الإنساني جسما يعمل بشكل جيد، لذلك فوجود قنوات وتواصلات واتصالات وتأثيرات من جهات خارجية أو حتى داخلية لا فائدة منه في وقت من الأوقات وفي وضع من الأوضاع، بل هو أم المشكلات أحيانا، يمنع من استكمال العمل المراد ومن النتيجة المقصودة لترزق البشرية بثقافة مشوهة خلقيا وعلميا.

قال أحدهم (الصمت في حرم الجمال جمال)، ولكننا ونحن القائلون لهكذا عبارات لا نعرف الصمت ولا السكوت، بل كثير منا لا يعرف الفرق بينهما، حتى إن الوصاية المفروضة على المجتمعات التي قامت وثارت لم تمنعه من الكلام فوجد في شبكات التواصل الاجتماعية كثيرا من الفسحة لتنثر غدده ذخيرة حية إلى غير وجهة.

بإمكان أي منكم أن يدخل لأي مقر عمل في وطننا العربي، سيجد كثيرا من الضجيج والكلام بين زملاء العمل، وبين المراجعين وهم، وبين متصلين ومن يمسكون بزمام الرد، ومع ذلك لن يخرج من ذلك المقر إلا وهو يتأفف من قلة العمل وكثرة الكلام، بينما من يدخل مجمعا يضم آلاف العاملين في مقر (Ficebook) أو مقر (Google) سيجد غددا صماء بكل ما تحمل هذه الكلمة من مقاصد بعيدة ومفيدة.

وعودة للشاهد من العنوان، العمل في صمت لا يعني الاستسلام بقدر ما هو عبقرية تنفيذ وقدرة هائلة على القيام بالمطلوب حتى في ظروف استثنائية، كما تفعل الغدد الصماء في أجسامنا، والعقول والأيدي العاملة في أمم وشعوب غيرنا، وحين تتوقف هذه الغدد وهذه الفئة من الناس عن العمل فهو توقف يستدعي تساؤلا وتدخلا طبيا أو اجتماعيا يراعي ويقدر خدمة طويلة جليلة قدمتها هذه الأجسام.

albabamohamad@