خالد العماري

المحماق الفكري

الخميس - 20 سبتمبر 2018

Thu - 20 Sep 2018

«المحماق» عند العرب هي المرأة التي تلد الحمقى، والأدبيات العربية مليئة بوصف الحماقة، والتحذير من التعامل مع الحمقى، ومن البلاء العظيم ألا تكون الحماقة استثناء، وألا يتفطن الناس لخطرها وضررها، ولعلي أستعير هذه الإشارة لتوصيف إشكالية فكرية ضربت المجتمعات قديما وحديثا، ليس بقوتها الذاتية، وإنما بعدواها التي تلتهم المزيد من الأصحاء السذج، ولا يكاد يسلم منها مريض قط.

وأيا كان دين هذا المجتمع، ونظام حكمه، ونمط حياته، إلا أن المحماق الفكري مهدد حقيقي لثقافة المجتمع ولحضارته، ولدينه وديناه، ولماضيه ومستقبله، ولنخبه وجمهوره.

المحماق الفكري هي تلك المنظومات العلائقية التي اندثرت أنوارها، وثارت نارها، والمدارس التي قبر أصحابها وقامت أنصابها، والأحزاب التي هرم المفكرون فيها، وأعقبهم نقلة الأفكار الذين اعتاشوا على منجزات قياداتهم، وتحولوا جنودا يدافعون عن ماضيهم بدون وعي بطبيعة الفكر البشري، وقابلية الأفكار والآراء العالية للمراجعة والنقض والنقد والتجديد.

ابتلي المسلمون بمحماق عقائدي فكري مع الفتنة الكبرى وبعد موت الخلفاء الراشدين، ولا زال بعض أواره حتى يوم الناس هذا، ثم ابتلوا بمحماق سلوكي مذهبي بعد موت الأئمة الأربعة، ولا زالت بعض آثاره في الكتب والدواوين، وفي أذهان الدارسين، ثم ابتلوا بمحماق حركي دعوي بعد مجاهدين ومقارعين للاستعمار والتغريب الذي أصاب الأمة، ونحن اليوم نعيش بعض أضراره وذرائعه.

يستمد المحماق الفكري سلطته من ثقافة الاختيارات المحددة، والقناعات الصارمة، والأطر الصلبة، وأشباه المتعلمين، والاتباع المجندين الذين لا يقبلون إعادة التفكير إلا أن ترضعهم المحماق أفكارا أخرى حولين كاملين، أو تسترضع لهم عند محماق أخرى خمس رضعات مشبعات!

إن دين الله الحق دافع لمزيد من التعقل والتفكر والتدبر، ومانع من الظلم والجهل والخطل، وإن النبي عليه الصلاة والسلام قد بلغ الكمال في الوعي عن الله، تحملا وأداء، وفهما وإفهاما؛ لأنه المبلغ عنه عز وجل، والمعصوم عن الضلال والغواية والهوى، بلا عدول عن الصراط المستقيم، ولا جهل من اعتقاد فاسد، ولا ميل إلى شهوة نفس، إلا أن هذه العصمة والضمانة من هذه المعضلات الثلاث بتمامها وكمالها لا تكونان إلا للنبي عليه الصلاة والسلام.

أما وعي العلماء بهذا الدين وبوحي رب العالمين، فقد يشوبه ما يشوبه إذا لم يجتمعوا على الحق، وتفرقوا شيعا وأحزابا، وإذا أصبح كل صاحب رأي معجبا برأيه، وتحولوا إلى إقطاعيين جدد، يتنافسون على الناس والأموال، أيهم يحتوي ناشئة أكثر، ويحوز مالا أبقى، سواء كان ذلك في شكل مذهب عقائدي، أو مدرسة فقهية، أو جماعة دعوية.

وإن العالم إذا أقر غلو الاتباع فيه، أو في مدرسته وجماعته، وتكاثر عدد من يقبل أقواله، ويفضل اختياراته، ويجزم بصحة حكمه وموقفه، بشكل مطلق، أو بشكل لا يسمح بالتفكير فيمن خالفه إلا على أنه معتد وجاهل، إذا وقع ذلك ولم يعرف عنه إنكار لذلك فقد تحول إلى محماق جديد، واكتسب سلطة تشبه سلطة الإعلام على العوام والدهماء، وأصبح رأسا ومقارعا ليس بقوة فكره بل بنفوذه وتمثيله لمن يرتبط به بشكل عضوي.

إن من إشكاليات الوعي الديني المعاصر أن يتحول الرأي والاجتهاد إلى اصطفاف ومنابذة، ونماذج إدراكية مغلقة، وهياكل حركية محكمة، تغلب عليها القطعية والصرامة في الأحكام والتوجهات، والظنية والتساهل في تجربة الوعي والفهم لذواتهم وللآخرين ولظروفهم المحيطة بهم.

إذا ضعف الوعي عن الله أطلت المحماق برأسها، ونفثت «الحُماق» وهو عند العرب شيء يصيب الإنسان كالجدري، فأصابت خلقا كثيرا، وطغى السلوك الخاطئ على الخلق الراشد، وتخندق الحمقى في دار الإسلام، وأصبح ماء الحكمة غائرا، وتحول الفضاء المعرفي من مصنع تفكير نشط في مجالات الحياة والإنسان والمعرفة والمستقبل، إلى خط إنتاج بقوالب مصكوكة سلفا، لا تعرف معروفا، ولا تنكر منكرا، إلا إن كان ضمن أجندتها وأولوياتها.

ammarikh@