محمد أحمد بابا

حكايتي مع البابا يوحنا

السبت - 08 سبتمبر 2018

Sat - 08 Sep 2018

أول مرة أسمع فيها أن اسم حبر المسيحيين هو «البابا» عندما كنت في الصف الرابع الابتدائي منتقلا من مكة للمدينة، لما سألني مدرس العلوم عن اسمي فقلت «محمد أحمد بابا» غاص في ثيابه ضاحكا أمام التلاميذ كأنني أسعفته بانتشال من هم قلب، فجاء سروره على يد طفل في العاشرة.

ولما انتهى المعلم من مسح أطراف عينيه من دموع قهقهته قال: ما شاء الله، البابا يوحنا بيننا! لم أفهم كلامه، لكن عرفت أن هناك شخصية اسمها «البابا» تثير ابتساماته التي لم يعتد التلاميذ عليها قبل تشريفي لمدرستهم كأول «بابا» يدخلها.

لم يدع المعلم الفرصة تفوته ليشرح للصغار بأن «البابا» يوحنا هو الشيخ الكبير للديانة المسيحية، وأنه مقدس عندهم ومقدر، وله مكانة عظيمة، ولم يكن يعتقد بأن هناك من العرب ـ حسب اطلاعه الجغرافي الواسع ـ من يتسمى بهذا الاسم، كأنه بذلك يعطيهم تبريرا - يظنه منطقيا - للسخرية مني ومن اسمي، منتهزا أن نفسيتي في ذلك العمر لم تكن قد احتملت كثيرا من الهموم، فلا بأس أن يكون أول هم أحمله لمستقبل عمري هو طريقة تقبل المعلمين لاسمي ولقبي.

أصبحت أنادى في المدرسة «البابا يوحنا» بدون ترقيم فلا ثاني ولا سادس عشر ولا حتى حادي عشر، فالكل أضحى يناديني بهذا الاسم صغارا وكبارا ما عدا مدير المدرسة الذي سلم عليه والدي يوما فتمنيت أن أستوقفه وأخبره بأنني «البابا محمد الأول».

في الجامعة أثناء إحدى محاضرات اللغة العربية استفسرت من محاضرنا صاحب الشخصية الفذة عن «صاحب الحال» في جملة معينة، فبادرني بالانتقام الفوري المبرمج والموجه وسألني عن اسمي، وكالعادة قلت له «محمد أحمد بابا» فقال لي ضاحكا أنت هو صاحب الحال، ضحك الطلاب وضجت القاعة بالتعليقات وأنا واقف مثل جدار مائل أو بيت وقْف، معتقدا أن اسمي سيصبح بعد المحاضرة «صاحب الحال» صابرا محتسبا، لكن دكتورنا ما لبث أن قال لي بلهجة عامية لا نحو فيها «البابا يوحنا يقرب لك؟» وضحك مرة أخرى وضحك معه الطلاب وضحكت أنا من شر بلية تسبب فيها «البابا».

أصبحت معلما في إحدى المدارس الثانوية ففوجئت بالمدير يسلمني الجدول مكتوبا فيه «الأستاذ محمد أحمد» فظننت أن اللقب سقط سهوا واستفسرت من وكيل المدرسة - في زمن المدير فيه بعبع - فحكى لي بأن مديرنا من حصافة رأيه وحرصه على سمعة مدرسيه والإمساك بزمام الأمور في المدرسة - التي يفخر هو بأن الإبرة لو رميت فيها لسمع حسيسها من شدة الانضباط - هو من أسقط البابا، فالطلاب موتى لا يود إحياءهم بلقب فيه «بابا» يذكرهم بالبابا يوحنا كبير قديسي النصارى، وكان القس الأكبر في ذلك الوقت يقوم بزيارة لإحدى البلدان العربية، فيحدث هرجا ومرجا مخالفين لما اعتادت عليه المدرسة من ألقاب ليس فيها ما يثير.

كتمتها في نفسي ولم أبدها لهم، وعزمت على مبادرة الطلاب باسمي في أول حصة نكاية بالمدير، وانتصارا لاسمي، لكن الجدران آذان مسلطة على القلوب، فلم أنتبه من وساوسي حتى قيل لي: المدير يريدك.

دخلت عليه فقال: حياك الله يا أستاذ بابا، وأردف التحية باعتذار عما لا أعرف، فإذا به يقول: طبعا مو «البابا يوحنا» وسامحنا يا أستاذ محمد لا تخبر الطلاب باسمك حتى لا تفقد شخصيتك من البداية، فأنت قريب منهم في العمر وتحتاج لوقت حتى تنقش لك شخصية صلبة في نفوسهم، فهم مراهقون ومتعبون، وكأن الشخصية بالأسماء، سمعت منه وفعلت ما في رأسي وخرجت من التعليم بعد أكثر من 20 سنة والجميع يناديني محمد بابا.

مات «البابا يوحنا» فلم تسعفني ثقافتي بأن هذا اللقب سيبقى، وظننت بأن موته راحة لي من تشابه الأسماء، ليجيء «البابا بينيدكت السادس عشر» بخيبة أمل لي جمعت بين حكايتي مع «البابا الراحل» ومشكلتي مع «البابا الجديد» لكن الله سلم، ليظهر لي بأن صعوبة نطق اسم «بينيدكت» أو الذي بعده «فرنسيس» على الألسن هو ما جعل تذكره لدى سماع اسمي نادرا وغير مؤثر مثل «يوحنا».

وحين زرت مصر للمرة الأولى فاجأني موظف في المطار يستظرف نفسه حين قرأ اسمي قال «أنت البابا شنودة»، فقلت - بعدما أصبحت ذا مهارة ردود - لا.. أنا بابا غنوج، فضحكنا سويا معترفين بأنها «نكتة بايخة» لكن تشابه الأسماء من هذا النوع أفضل من تشابه الأسماء في تهمة جنائية.

عزائي أن شركة «على بابا» من أكثر الشركات ربحا رغم أن إخوتنا من بنجلاديش يطلقون «علي بابا» على السارق وفق قصة «علي بابا والأربعين حرامي» التي تصفهم ولا تصفه، لكنها اللازمة الذهنية.

وأخيرا: جميل جدا أن يحفز اسمك على الابتسامة، في طريق لكل قلب، فلا يتوقف عداد الحسنات.

albabamohamad@