خالد العماري

طلابنا بين البوصلة والرسن

الخميس - 06 سبتمبر 2018

Thu - 06 Sep 2018

في المرحلة الثانوية التحقنا بما كان يسمى التعليم المطور آنذاك، وكان نمطه مغايرا لما كان قبله، فالابتدائي والمتوسط كانا مشبعين بالأطر، وبناء المدرسة ظاهر الأطر، والمقررات، والوقت، والتقنيات، وطرائق التحمل والأداء، والرسم والمسرح والإذاعة والاحتفالات والنشاطات خارج الصف كلها مؤطرة، وثقافة التأطير في كل شيء حتى في الكشكول!

ورغم حسنات تلك الحقبة، وفضل من قام عليها، إلا أنه لم يكن هناك شيء يذكر نستطيع التعبير عنه خارج هذه الأطر، بل لا أذكر أن فضاء التعليم كان يسمح بشيء من الفوضوية والتلقائية ومحاولات التجربة والاكتشاف.

وكنا في الغالب أحد طالبين، طالب وجد فسحته في الشارع ومع مجموعة الرفاق، وآخر - وهو غالبا من الحريصين على استثمار أوقاتهم - التحق بالمكتبة أو الكشافة أو جماعة التوعية الإسلامية ثم المراكز والنوادي الصيفية في فترة الإجازة، ورغم ما توحي به هذه الجماعات المدرسية للطالب بأنه طالب متميز، وله شأن ومشورة ومشروع، إلا أنها لم تسلم من التأطير في كثير من الوقائع والأعراف، فلو التحقت بجماعة لاكتشفت أنك فارقت أخرى، ولو اتخذت رفقة فقد خسرت آخرين، ولو شاورت مشرفا في خاصة أمرك لضمك إلى رفاقه، ليس من سوء النوايا ولكنه نسق الثقافة السائد آنذاك، وقد وقع هذا لكثير منا في المراحل المتوسطة والثانوية والجامعية، بل حتى في العمل الاجتماعي والتطوعي بعد ذلك!

حاولت الوزارة قديما التخفيف من هذه الأطر وتأثيرها على الطلاب بالتعليم المطور، وهي تحاول اليوم بطرائق عدة، منها ضم جماعة التوعية وبرنامج فطن وحصافة لمركز واحد سمي بمركز الوعي الفكري، ونحن نتساءل اليوم ومع بداية هذا العام الدراسي: ما هي رؤية ومقاصد هذا المركز التي تمكننا لاحقا من محاكمة الجهود والمخرجات؟ وما نظرية الإصلاح «التغيير» التي يتبناها؟ وما الاستراتيجيات التي سيعملها؟ وكيف سينعتق من الشكلانية؟ ويسلم من تلبيس الطواقي لرؤوس أخرى؟ وهل سيقول لمن تورط في الربا الفكري «لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون» أم سيسمح بمرابين جدد؟

لا شك أن الناس قد رأوا بعض المخرجات الفكرية المنحرفة وآثارها السلبية على الأسرة والمجتمع والوطن، وهم الآن لا يريدون لأبنائهم الوقوع في شرك أفكار أخرى وتجاذبات وصراعات ليست في مصلحة الدين ولا الوطن ولا الحياة الكريمة.

من السهل أن يرتهن الفكر البشري لأطر ضيقة وأجندة فكرية محددة ومضامين متحيزة باسم الوعي! وفي المقابل من الصعب أن ندرب الطلاب والطالبات على طرائق تفكير أوعى، وأساليب فحص أدق، ودربة على النقد والترجيح بين الأفكار والمعلومات والأحكام.

من السهل أن تضع الرسن على رقبة وأنف الدابة وتمضي بها حيث شئت مع قطيع مثلها، لكن من الصعب أن تدرب إنسانا واحدا على خوض البحار والتعامل مع البوصلة في وسط الأمواج العاتية.

التأطير هو نوع من الحيلة التي تمارس على مستوى الإعلام، ونظرية التأطير مرتبطة بالأجندة وجماعات الضغط وغيرها من الأدوات في مجالات كثيرة، إلا أنه يجب أن ننزه الأوساط المعرفية والاجتماعية عنها، خاصة مع تعليم الناشئة والشباب. وجميل جدا أن ننادي بالوعي الفكري، لكن بعد أن ندرك أولا أن الوعي ينزع إلى السعة والاستيعاب للتنوع والاختلاف، والدربة على التعامل الأمثل على مستوى الفهم والحكم والموقف في أي قضية تعرض لنا، وتحت أي ظرف يمر بنا.

وإن من أكبر التحديات التي تواجه التعليم بجميع كياناته وقياداته هو أن الطلاب اليوم يعيشون في فضاء افتراضي غير مؤطر إلا بشيء هلامي، والتعليم في جوهره بحاجة للتأطير العلمي الذي يراعي مسألة النمو والمراحل العمرية عند نقل المعارف والتجارب والخبرات، فكيف يا ترى سندرب طلابنا على الإبحار في هذا الفضاء وثقافة الرسن ما زالت مهيمنة على كثير منا ولم نر البوصلة بعد؟!

ammarikh@