خالد العماري

الناس باعتبارهم أفكارا

الخميس - 30 أغسطس 2018

Thu - 30 Aug 2018

الإنسان منظومة حيوية وعلائقية لا يمكن تجزئتها إلا لغرض مدرسي، وعندما نقول الإنسان جسد ونفس وروح، أو تصورات وإرادات وسلوك، أو قول وقصد وقيام، أو أفكار وعلاقات ومشاريع، أو غير ذلك من التقسيمات، ونعمل التحليل والتفكيك لهذه الأجزاء ونتحدث عن كل جزء على حدة، فإنما نصنع ذلك بطرائق وحيل ذهنية لكي نفهم الإنسان وما يحيط بالإنسان.

مفهوم الأفكار بحسب الاستعمال العام هي كل ما يعتلج في الأذهان من تساؤلات وخواطر وحوارات داخلية وانفعالات ذهنية نتيجة إعمال التفكير ومحاولة التعقل للواقع كيف كان؟ وللمتوقع كيف يكون؟ وما ينتج عن ذلك من توليد للمفاهيم والقناعات والقرارات والمقترحات على مستوى الفرد والمجموع.

وحيلتي اليوم هي قراءة الناس في عالم الأفكار ومجزوءة التفكير، وهي حيلة حسنة لم نصنعها كثيرا على مستوى الأمتين العربية والإسلامية، في الوقت الذي نشهد فيه تفوق الآخر في هذا الميدان، وقدرته على تسخير الأفكار لهيمنته ومصالحه ومستقبلاته.

المكتبة العالمية حافلة بالكتب التي تحدثت عن أفكار عابرة للقارات، وعن موسوعات وتاريخ الأفكار، وعن ورصد الأفكار والأنساق الفكرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفيزياء وغيرها من المجالات، وما الأفكار التي هزت العالم؟ والأفكار التي قتلت أصحابها؟ ومن هم سماسرة الأفكار؟ وما هي مشكلة الأفكار؟ وكيف نصنع الأفكار المبدعة؟ ولماذا تهاجر الأفكار؟ وكيف نتحرر من الأفكار الآثمة؟ ونسلم من مغامرات الأفكار؟ وماذا نصنع عند غليان الأفكار؟ وكيف نفكر بوضوح في زمن متغير؟

الأفكار اليوم ما عادت أفكارا! بل هي ثروة ورأسمال فكري، وبنوك ومنصات أفكار، وملكيات ومحميات فكرية، وأيديولوجيات وأنساق ومنظومات، ومراكز فكر صانعة للقرار وموجهة للساسة، ووقود للمدافعات الثقافية، وطاقة للتسابق الحضاري، وسيناريوهات صراع وهيمنة، وحروب استباقية في مجال يسبق كل مجال!

نحن بحاجة لعقلية ابن خلدون، ولطريقة مالك بن نبي، ولمن يرى الأفكار ولا تعميه الشخوص، ولمن يستطيع أن يسبح مع الأفكار بشكل أفقي ولا يغيب في العمق العمودي، ومن يفكر بمنطق الذات وإن توغل في دراسة الآخر، ولمن يستطيع الخروج من اختياراته ومألوفه الحالي ليرى الأنفع والأصلح المستقبلي، ومن لديه القدرة على تغليب الموضوعية على الذاتية في تقييم الأفكار، والانفكاك من أسر الأيديولوجيا أيا كانت ليتوسع في المقارنة ويقدم مراجعة ونقدا وفكرا أوعى من ذي قبل.

هناك أفكار ومفاهيم ومدركات ظاهرة، وأخرى مختبئة، وثالثة مشروطة بشروطها، غير أنها جميعها ليست أُنفا، ولا تكون أولية بشكل مطلق - عدا ما أوجد الله في وعي آدم عليه السلام من المعقولات عندما نفخ فيه من روحه وألهمه وعلمه أسماء كل شيء - وليست هناك قطيعة تامة بين الأفكار في ظرف واحد، بل كل فكرة قد استجابت لنسق حاكم عليها، واقتاتت على أفكار معها أو قبلها، وقامت على أساسها أو أنقاضها، وهذا مما يدفعنا لمزيد من الدربة العقلية، ويهيئنا لمزيد من المرونة العملية في التعامل مع الأفكار.

ومع ذلك فإن تطور الأفكار ليس كالتطور المادي، فالمادة مثقلة بالواقع، وأما الفكر فقد ينتفض على الواقع فجأة، ويقفز للمستقبل المتوقع بفكرة، ويعد بمستقبل أفضل لمن يستطيع أن يراه.

من الأفكار فكرة لا تكاد تبين، وفكرة تملأ ما بين الخافقين، وفكرة حبست صاحبها، وأخرى حررته وأطلقته، وفكرة قتلت الناس جميعا، وفكرة أحيتهم أجمعين، وفكرة لا زالت فكرة، وفكرة صارت هما، وفكرة خلقت عزما، وفكرة أفضت إلى تجربة، وفكرة تجسدت في منتج أو مشروع، وفكرة صحيحة، وأخرى سقيمة، وفكرة ولادة، وأخرى عقيمة، وفكرة صنعت أفكارا، وفكرة حصدت اليأس وزرعت الأمل، وفكرة بعثت الأسئلة، وفكرة بعثرت الأجوبة، وفكرة حرة، وأخرى أمة، وثالثة إمعة، وهكذا الناس كل الناس باعتبارهم أفكارا.

ammarikh@