مرزوق تنباك

كنت حاجبا للنبي وقارئا لرسائله

الثلاثاء - 28 أغسطس 2018

Tue - 28 Aug 2018

في الثلاثة الأشهر الأخيرة من كل عام هجري يتحول أهل المدينة المنورة ومن حولها من الأعراب إلى خدمة الحجاج، وكل يعمل على شاكلته، وما يحسن من صنعة، وتتحول جميع البيوت المحيطة بالحرم النبوي إلى سكن للحجاج يخرج أهلها إلى (البلدان) أي المزارع خارج المدينة أو ينزوون في سطح المنزل، ويتركون غرفه ومنافعه كلها للحجاج، وتمتلئ الأسواق بالبضائع ويكثر البائعون الجوالة، وأكثرهم يأتي من الأطراف ويشاركهم بعض الحجاج، وتتوسع الحاجة في الإدارات الحكومية إلى المتعاونين للعمل المؤقت في الموسم، وتنشط حركة النقل والسفر، ويشتغل أهل المدينة كل بما يسر له. وكنت ميسرا لكثير من الأعمال في كل موسم، لكن سأذكر منها عملا واحدا في مناسبة انقضاء الحج هذا العام، وهو أنني كنت أقرأ الرسائل التي ترسل إلى النبي وأبلغه ما يتوسل به المتوسلون إليه، ومن حجاب الحجرة الشريفة.

كان يشرف على الحرم النبوي في ذلك الوقت ثلاث هيئات، إدارة الحرم وقسم من الشرطة وقسم من هيئة الأمر بالمعروف، وفي ليلة الاثنين من كل أسبوع بعد أن يغلق الحرم الساعة الرابعة غروبي، يحضر مندوب من كل هيئة من هيئات الإشراف الثلاث، وتفتح الحجرة الشريفة للتنظيف ويجمع ما ألقي فيها من أشياء. كان لا زال في الحرم اثنان من الأغوات، أحدهما شاب والآخر شيخ كبير، يقوم الآغا بفتح الحجرة الشريفة والتربة الطاهرة، أمام الجميع ويدخل أولا ويقف الأعضاء خارج الغرفة فيجمع ما قد ألقي من فتحات الشبابيك الخارجية من أشياء ويسلمها للأعضاء ثم يشرع في تنظيفها من الداخل والجميع يشاهده، وكنت مرافقا لعضو هيئة الأمر بالمعروف، ومهمتي تحريز المحضر بما يوجد في الغرفة والتوقيع على محتوياته من الأعضاء المكلفين، وما يخص هيئة الأمر بالمعروف هي الرسائل المتوسلة بالشفاعة إلى النبي والتصرف بها، ولأنني غير مؤتمن على العقيدة فإنني أذهب بصحبة أحد شيخين فاضلين يمثلان الهيئة ونقاء العقيدة، وهما الشيخ عبدالله العثمان الصالح وهو والد الدكتور ناصر الصالح مدير جامعة أم القرى سابقا، أو مع الشيخ عبدالوهاب الزاحم. وكل منهما له شخصيته وطريقته المميزة، فإذا جمعت الرسائل أقوم بفتحها أمام اللجنة لئلا يكون في داخلها أشياء مادية، أما مضمونها الأدبي فأقرأ بعضه على الشيخ وكلما سمع شيئا من التوسلات استعاذ بالله من الجهل والتوسل بالنبي ثم يأمر بتمزيقها، وأكثر الرسائل تأتي من العراق ومصر ومن إيران، كنت أتعاطف مع بعض هذه الرسائل لما فيها من جميل التوسلات والعواطف الدينية المؤثرة وأحيانا مطالب دنيوية، وقد أحاول الاحتفاظ ببعضها لقراءتها على النبي في وقت آخر. فإذا كان المناوب هو الشيخ الزاحم فالأمر معه صعب، فهو رجل يمثل الشخصية السلفية الصارمة، ولا يترك رسالة حتى أمزقها أمامه شر ممزق، ويتأكد أنني لم أحتفظ بشيء منها، وإذا شعر أنني ضقت بصرامته مزجها بمزحة لطيفة تخفف تلك الصرامة، والمزح معي قرآن يتلى، احذر يا مرزوق «من الأعراب منافقون» ولا يكمل، احتملتها في المرة الأولى وعاد إليها مرة ثانية، فكان الرد: نحن أمام الحجرات فاحذر يا شيخ عبدالوهاب «إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون»، فضحك كثيرا واستحسن الرد، وقال: هذه بتلك، وأصبح كلما رآني يقول: ما رأيك أيهما أشر المنافقون أم الذين لا يعقلون. أما إذا كان المناوب الشيخ عبدالله العثمان الصالح فالأمر هين، الرجل دمث الأخلاق سمح في تعامله، لا يرى التشدد في شيء، وأقرأ عليه بعضها ويكل إلي ما بقي منها، وما ينجو من التمزيق آتي به في الصباح إلى دكة الأغوات وأقترب من الشباك وألتصق به، وأقرأ على النبي الرسائل التي نجت والتي تشدني نصوصها وتوسلاتها بالنبي، ومنها رسالة تأثرت بمضمونها وتعاطفت معها، وهي من فتاة من الفيوم في مصر ذكرت للنبي أنها: فتاة فقيرة تزوجت محاميا ميسور الحال، ومضى على الزواج أربع سنوات ولم ترزق بولد وتخشى الطلاق، وتتوسل بالنبي أن يهبها الله ولدا.

أخذت الرسالة وقرأتها وشعرت وأنا أقرؤها أنها تكاد تطير من يدي وتلتصق بشباك الحجرة، وكررت القراءة. وكتبت إلى الفتاة أنني من حجاب الحجرة الشريفة ومن قراء الرسائل الموجهة للنبي، وأنني قرأت رسالتك على النبي وثقي بشفاعته، وتركت العنوان عند دكان أحد المعارف في باب الكومة. وبعد عام أو أكثر وصلني الرد وصورة طفل ودعوة منها ومن زوجها لزيارة مصر وكثير من الثناء والدعاء.

وقد ندمت لأنني لم أحتفظ بتلك الرسائل التي جمعتها وإلا لأصبح اليوم لها معنى.

Mtenback@