أتكلم عربي وإلا إنجليزي؟
الأحد - 26 أغسطس 2018
Sun - 26 Aug 2018
من أكثر الحروب الفكرية الناعمة التي تدب في الأسر ثم تتصعد إلى المجتمع قضية الاعتزاز باللغة العربية، مقابل اللغة الإنجليزية، على اعتبار أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، وأن العربية اللسان والهوى والهوية.
العم حافظ إبراهيم (شاعر النيل) لم تغب عنه هذه الحكاية، بل امتلأ حنقا على أهل زمانه بداية القرن الـ 20، والذين بدت عليهم آثار موجة اللكنة الإنجليزية نتاج الاستعمار، فنظم أبياتا على لسان اللغة العربية، وسمى قصيدته «اللغة العربية تحتضر»، وورد فيها:
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة
وكم عز أقـوام بعز لغات
أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا
فيا ليتكم تأتون بالكلمات
وما زال الغرب يأتون بالمعجزات ونحن نتأخر في ساحة المخترعات والكلمات على حد سواء!
ما زلنا نقف عند حائط الشكوى ونتباكى على الإرث اللغوي التليد تارة أو نفاخر بسيبويه والخليل بن أحمد الفراهيدي والمبرد وابن جني تارة أخرى.
التباكي أو التباهي العنصران الهشان في منظومة صنع الحضارات، واللذان لا يعول عليهما تقدم ولا يرتجى منهما إحداث ثورة حضارية تنقل أي أمة من غياهب التأخر وسرادقه إلى سنام التقدم وناصيته.
وجاء العصر الحديث فزادت مخترعات الغرب إعجازا، فأصبحت لغته مرجعا للجديد في الطب والعلوم والطبيعة والفلك والطيران والسياحة والمال والأعمال، ذلك أنه من غير المقبول بدهيا أن تتنامى حضارة قوم وتتضاءل معها لغتهم!
ومع معرفتنا للمشهد العام والصلة الوثيقة بين التقدم الصناعي واللغة فإن البعض ما زال يتساءل بذات الطريقة: لماذا لم تأخذ العربية حقها من الاهتمام؟
حسنا، سأورد بعض الأمور في محاولة للإجابة عن هذا السؤال الذي أعلم يقينا أننا جميعا كمسلمين وعرب نتألم لأجله، ولكن كما أسلفت إن الألم لا يصنع فرقا بقدر ما يعزز جرحا.
أولا: أمتنا لم تتقدم بالقدر المرجو صناعيا مقارنة بالغرب، فمن الطبيعي ألا تأخذ العربية مكانتها كلغة الساحة، وقوفا عند نظرية العلاقة الطردية بين الثورة العلمية واللغة.
ثانيا: في مجال اللغة العربية كتخصص ما زال علماء العربية للأسف متأخرين مقارنة بعلماء الغرب في مجالات اللغويات واللسانيات linguistics والصوتيات phonology وعلوم المعاني semantics وعلم الدلالة pragmatics.
اللغويون العرب ما زالوا أيضا يتعاملون بالطريقة التقليدية old school في علوم النحو والصرف syntax& morphology ولا يتبعون المنهج الرياضي باستثناء أسماء قليلة مثل عباس بن مأمون، وهو الأمر الذي نزع إليه الغرب في دراساته، ولعل من أشهرهم اليوم الأمريكي درة زمانه Noam Chomsky.
ثالثا: اللغة العربية مقارنة بالإنجليزية لم تخدم الكترونيا. ولتتبع هذا الأمر لا يلزمك سوى أن تتصفح الانترنت بحثا عن مواقع تعلم وتعليم العربية، وقواميس العربية Arabic dictionaries ومدارس وأندية وجمعيات اللغة العربية، ثم تقارن ما تجده من عدد ضئيل بموقع واحد فقط لأكسفورد الإنجليزية أو كامبريدج الأمريكية، وستصعق من تباين المحتوى وجودة العرض ودقة الاختيار وسلاسة التقديم وتحديث المحتوى.
رابعا: ماذا قدمت بعض الأسر لأفرادها، والتي تتباكى (فقط) على اللغة العربية؟ هل قدمت قصصا عربية وكتب آداب وصحافة راقية ومجلات متعددة ومسابقات سمر؟ هل تجاوزت ذلك إلى مجرد تأنيب الشباب على القبوع خلف أبواب غرفهم يطالعون الأفلام الأمريكية وأغاني hip- hop و R&B/soul ويشاهدون الميديا المختلفة (حصريا) باللغة الانجليزية؟
أخيرا: هل يوجد في البيوت القدوة اللغوي العربي الذي يهرع إليه الكبير والصغير لتحسين إملائهم وتجويد خطهم وتحليل خطابهم وتذوق الآداب معهم؟ أم إن الترند الحديث هو أن يكون الكلام مختلطا بين العربية (اللغة الأم) والإنجليزية (اللغة البرستيج)، والذي تفاخر به الأسر وتستخدمه السيدات والسادة بشكل يومي على هيئة «لا هذا الشيء أوفر»، أي مبالغ فيه، «أوكي مسجني» أي أرسل لي رسالة، و«هذا الشيء كيوت» أي حلو، و«معليش سويتي» أي حبيبتي.. إلى آخره من التنقل بين اللغتين code- switching لإظهار القدرات اللغوية، خاصة لمن لم يترعرع في بلاد الغرب ويتأثر بلسانهم.
سأختم بالقول إن تعلم اللغات مكسب، وإتقان الثقافات التي تقف وراءها براعة، وإن تفضيل لغة على أخرى لا يمكن أن يتأتى بتذكر الأجداد دون الاستعداد للمستقبل بذراع قوي اسمه الاعتزاز بالدين والتسلح بالمعرفة اللازمة، ومقارعة دهاقنة العصر بالكفاءات المحلية التي تجمع مزيجا جميلا يأخذ من لغتنا العريقة أجمل ما فيها ويوظفه بثقة في ميادين العلوم والثقافة، وحينها سيتمنى حافظ إبراهيم لو عاد إلى الحياة ليكتب قصيدة أخرى يسميها «اللغة العربية تنتصر بدلا من أن تحتضر»!
العم حافظ إبراهيم (شاعر النيل) لم تغب عنه هذه الحكاية، بل امتلأ حنقا على أهل زمانه بداية القرن الـ 20، والذين بدت عليهم آثار موجة اللكنة الإنجليزية نتاج الاستعمار، فنظم أبياتا على لسان اللغة العربية، وسمى قصيدته «اللغة العربية تحتضر»، وورد فيها:
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة
وكم عز أقـوام بعز لغات
أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا
فيا ليتكم تأتون بالكلمات
وما زال الغرب يأتون بالمعجزات ونحن نتأخر في ساحة المخترعات والكلمات على حد سواء!
ما زلنا نقف عند حائط الشكوى ونتباكى على الإرث اللغوي التليد تارة أو نفاخر بسيبويه والخليل بن أحمد الفراهيدي والمبرد وابن جني تارة أخرى.
التباكي أو التباهي العنصران الهشان في منظومة صنع الحضارات، واللذان لا يعول عليهما تقدم ولا يرتجى منهما إحداث ثورة حضارية تنقل أي أمة من غياهب التأخر وسرادقه إلى سنام التقدم وناصيته.
وجاء العصر الحديث فزادت مخترعات الغرب إعجازا، فأصبحت لغته مرجعا للجديد في الطب والعلوم والطبيعة والفلك والطيران والسياحة والمال والأعمال، ذلك أنه من غير المقبول بدهيا أن تتنامى حضارة قوم وتتضاءل معها لغتهم!
ومع معرفتنا للمشهد العام والصلة الوثيقة بين التقدم الصناعي واللغة فإن البعض ما زال يتساءل بذات الطريقة: لماذا لم تأخذ العربية حقها من الاهتمام؟
حسنا، سأورد بعض الأمور في محاولة للإجابة عن هذا السؤال الذي أعلم يقينا أننا جميعا كمسلمين وعرب نتألم لأجله، ولكن كما أسلفت إن الألم لا يصنع فرقا بقدر ما يعزز جرحا.
أولا: أمتنا لم تتقدم بالقدر المرجو صناعيا مقارنة بالغرب، فمن الطبيعي ألا تأخذ العربية مكانتها كلغة الساحة، وقوفا عند نظرية العلاقة الطردية بين الثورة العلمية واللغة.
ثانيا: في مجال اللغة العربية كتخصص ما زال علماء العربية للأسف متأخرين مقارنة بعلماء الغرب في مجالات اللغويات واللسانيات linguistics والصوتيات phonology وعلوم المعاني semantics وعلم الدلالة pragmatics.
اللغويون العرب ما زالوا أيضا يتعاملون بالطريقة التقليدية old school في علوم النحو والصرف syntax& morphology ولا يتبعون المنهج الرياضي باستثناء أسماء قليلة مثل عباس بن مأمون، وهو الأمر الذي نزع إليه الغرب في دراساته، ولعل من أشهرهم اليوم الأمريكي درة زمانه Noam Chomsky.
ثالثا: اللغة العربية مقارنة بالإنجليزية لم تخدم الكترونيا. ولتتبع هذا الأمر لا يلزمك سوى أن تتصفح الانترنت بحثا عن مواقع تعلم وتعليم العربية، وقواميس العربية Arabic dictionaries ومدارس وأندية وجمعيات اللغة العربية، ثم تقارن ما تجده من عدد ضئيل بموقع واحد فقط لأكسفورد الإنجليزية أو كامبريدج الأمريكية، وستصعق من تباين المحتوى وجودة العرض ودقة الاختيار وسلاسة التقديم وتحديث المحتوى.
رابعا: ماذا قدمت بعض الأسر لأفرادها، والتي تتباكى (فقط) على اللغة العربية؟ هل قدمت قصصا عربية وكتب آداب وصحافة راقية ومجلات متعددة ومسابقات سمر؟ هل تجاوزت ذلك إلى مجرد تأنيب الشباب على القبوع خلف أبواب غرفهم يطالعون الأفلام الأمريكية وأغاني hip- hop و R&B/soul ويشاهدون الميديا المختلفة (حصريا) باللغة الانجليزية؟
أخيرا: هل يوجد في البيوت القدوة اللغوي العربي الذي يهرع إليه الكبير والصغير لتحسين إملائهم وتجويد خطهم وتحليل خطابهم وتذوق الآداب معهم؟ أم إن الترند الحديث هو أن يكون الكلام مختلطا بين العربية (اللغة الأم) والإنجليزية (اللغة البرستيج)، والذي تفاخر به الأسر وتستخدمه السيدات والسادة بشكل يومي على هيئة «لا هذا الشيء أوفر»، أي مبالغ فيه، «أوكي مسجني» أي أرسل لي رسالة، و«هذا الشيء كيوت» أي حلو، و«معليش سويتي» أي حبيبتي.. إلى آخره من التنقل بين اللغتين code- switching لإظهار القدرات اللغوية، خاصة لمن لم يترعرع في بلاد الغرب ويتأثر بلسانهم.
سأختم بالقول إن تعلم اللغات مكسب، وإتقان الثقافات التي تقف وراءها براعة، وإن تفضيل لغة على أخرى لا يمكن أن يتأتى بتذكر الأجداد دون الاستعداد للمستقبل بذراع قوي اسمه الاعتزاز بالدين والتسلح بالمعرفة اللازمة، ومقارعة دهاقنة العصر بالكفاءات المحلية التي تجمع مزيجا جميلا يأخذ من لغتنا العريقة أجمل ما فيها ويوظفه بثقة في ميادين العلوم والثقافة، وحينها سيتمنى حافظ إبراهيم لو عاد إلى الحياة ليكتب قصيدة أخرى يسميها «اللغة العربية تنتصر بدلا من أن تحتضر»!