فارس الغنامي

فتى يتجول بالمدينة الفاضلة

السبت - 11 أغسطس 2018

Sat - 11 Aug 2018

‏أمشي كطفل يتجول صباح العيد أمام المتجر كي يشتري مفرقعات الدهشة؛ ليرى العيد من خلالها، لا أدري لماذا مدينتنا الفاضلة مكتئبة هكذا؟! يقال: إن فتاة قضت نحبها ليلة البارحة لأسباب مجهولة وغامضة، إلا أن جارتنا النمامة قالت: إن زوج الفتاة ضاق ذرعا بها وبشرقيتها اللعينة فقتلها؛ فقد كانت تأبى تقليد ما يشاهده من أساليب الحياة العاطفية الغربية، وبينما كنت عائدا، وفي فمي حلويات مسكرة شاهدت العجوز التي كانت تقول لي: يا بني، إياك أن تعطي لفتاة مصروفك، فكل الفتيات ماكرات، ولا تعرهن انتباهك.

‏إنها مدينة تعج بالحماقات والحمقى! بالانطفاءات! بالذكريات! بالحياة التي يحلق الجميع فيها كطائر، وكجسد مليء بالدهشة! عجيب! كيف يمكن للموت أن يرسم كل هذه التجاعيد على وجه هذه العجوز التي لا تزال حاقدة، بل إنها بصقت بوجه ذلك الذي سرق منها ابنها الوحيد، وذهب به بعيدا إلى المجهول؛ ولم يعد حتى الآن، وحرمه كل جميل ينتظره، لقد تركها تعيش مع ذكريات ابنها المؤلمة.

وما أجملها من لحظات حين صادفت زميل المدرسة، لقد مر وقت طويل، ولكن ما لي أراه حزينا وحانقا، ما بك يا صديقي؟! لم تحدق هكذا في الغروب؟! أنا أعلم أنك تأثرت بما حدث بالمدرسة. قال لي: في الحقيقة المشهد رسخ في ذاكرتي، يأبى أن يصبح طي النسيان، فحين أمعن في النظر إلى الشمس وهي تغرب أتذكر مشهد صديقنا ابن الجديلة المقطوعة الذي طلب منه أستاذ العلوم الدينية تعريف الخطيئة منه دون غيره، قلت له: هذا العالم ليس سيئا كما تظن، بل يظهر لنا ذلك، والواقع أننا نحن السيئون.

‏وتركته يتابع رحيل الشمس بصمت. وشاهدت جارنا غريب الأطوار الذي يرى نفسه قامة أدبية سامقة في العالم، فقد قضى معظم عمره بين القراءة والتأليف؛ فأصبح من أشهر الروائيين، بيد أن عدد متابعيه في مواقع التواصل الاجتماعي لا يتعدى 300 متابع فقط، فاتخذ أغبى قرار في حياته، حين عاد من احتفالية إطلاق الإصدار العاشر له، وارتمى على السرير وحدق بالسقف وهو يشعر بالحزن وسأل نفسه: هل يعقل لأديب بمكانتي أن يكون عدد متابعيه 300 متابع فقط؟! فطلب من أحد مالكي الحسابات المليونية إعادة تدوير تغريدة له، فقام الحساب بتصوير المحادثة وغرد قائلا "شيء مؤسف! أديب كبير يتسول إعادة التغريد"!

‏تلك الليلة لم ينم الأديب، لقد قضى الليل يتفحص وجهه بالمرآة ويشتم نفسه بأبشع الأوصاف والنعوت، بل أقدم في الحقيقة على تفريغ غضبه على زوجته المسكينة فطلقها.

‏ثم أكملت طريقي لشقتنا المخصصة للعزاب، والتي أقطن فيها مع ثلة من الأصدقاء المملوئين بالقصص والصمت العميق، لا شيء غريبا فيها سوى الفوضى، وبقايا أكياس عشاء البارحة، ومجلات النساء المرمية بكل مكان. شاشة التلفاز لا تزال على القناة التي كانت تعرض فيلم منتصف الليل، هناك بالقرب من منفضة السجائر وعلب العصير الفارغة.

‏أتى صديقنا الآسيوي كي يعيد ترتيب المكان من جديد، الكل متسمرون أمام هواتفهم الذكية؛ الأول يصافح الطيش برفقة الجميلات، والثاني يحمل أمنية نازفة على هيئة استقرار وظيفي بالقرب من محيطه الذي حلق بعيدا عنه، بينما الثالث يدخن بشراهة، كأنه يرى من خلال الدخان المنساب بالهواء خيالات العمر المدججة بالفرح تارة وبالمرارة تارة أخرى، وأما الرابع فيرتدي بزته العسكرية، ويرى المصابيح وانطفاءها في لحظتها بعد أن لاح في الأفق قبس من النور.

‏لقد عجز ذلك العود الموسيقي عن ترميم هذا النقش الذي كتبه أحدهم عليه (وين ذاك المكان اللي جمعنا) كأن الموسيقى والعازف صديقان جبلا على أن ينصتا لندوب الذكريات.

‏نسيت الحديث عن ذلك العجوز الذي يقطن معنا أيضا، كان مع نفسه كجسد يتعارك مع الروح، يحاول أن يتلقف لحظاته الهاربة منه، فيجادل المستقبل، ويحثه على الحياد، مثل راهب يخفف من أثر الخطيئة في داخل فتاة منكوشة الشعر، وبيدها زجاجة تقاتل بها حتى الرمق الأخير؛ كي تنال النسيان المقدس، لقد كان أشبه بمراوغ عجوز يحاول ارتداء معطف الشباب أمام النساء النمامات، وهن يحتسين القهوة بجانب الكلام البذيء عن أرملة الحي الجميلة في كل مساء.

‏لقد أدرك متأخرا أن الإنسان باستطاعته أن يصنع لنفسه مجدا واحدا لا غير، بينما بقية ما يظنه أمجادا محاولات لإثبات أن الجدية مع هذه الحياة أشبه بنكتة قيلت لطفل، فلم يعرها أدنى اهتمام، كان يود أن يصنع ذلك المجد لابنته التي أتى معها لتكمل تعليمها؛ كي يمحو حطام المدينة بداخله، ويعيد إعمارها للحياة، ويشعل أنوار نوافذها من جديد، كان يبحث عن الحياة لا سواها، كان يظن أن باستطاعته أن يجعل من الدقيقة ميلادا للساعة المبجلة التي ينطلق منها لاستئناف ما تبقى من عمره، وأن رحيل الشمس هو بداية عودة النجوم، وأن صوت العصافير احتفال صباحي لأجله. هكذا يرى هذا العجوز تفاصيله الذاهبة دون التفاته إليه، كغيمة فارغة يستجدونها لتمطر وتبلل سكان مدينة يقال إنها فاضلة! قبل أن يخدش جمالها مجرم حرب متمرد، حيث يأبى الرحيل دون انتصار، فكانت الخاتمة أن جعل من إحدى جميلاتها تندب حظها العاثر ألف مرة، فطاردته تحت زخات أمانيها الممزقة، وكانت تشاهد صغار المدينة يلحقون بها بعد أن علموا مبكرا أن الحب مجرد فستان يتمزق قبل أوانه، لقد ظلت تبكي وهي تجمع ما تبقى من أنفاسها، وما تبقى من تلك الصور مع شريك عمرها المتيم بها.

‏وفي الحقيقة، لقد عرفت أن تشبيك يديها بذلك الغروب وبمحاذاة الشاطئ لن يتسنى للقدر إعادته أبدا!