أحمد الهلالي

لماذا الفنان التشكيلي لا يرى إلا ما نرى؟

الثلاثاء - 07 أغسطس 2018

Tue - 07 Aug 2018

أحب الفنانين ولست منهم، هؤلاء المرهفون الحساسون لهم بصماتهم المميزة في حياتنا، ولما يبدعونه تأثيره العميق في أرواحنا، يحيلون المساحات الخاوية إلى حدائق بهجة لونية، بأفكار مدهشة، ورسائل إنسانية تستوقف المستعجل رغما عن أنف لحظته، تسكب في روحه جرعة تأمل ثم يمضي، لربما عدلت تلك الجرعة سلوكا، أو زرعت أملا، أو استفزت فكرة، أو اقتطفت آهة مؤرقة، أو اعتصرت دمعة حائرة، أو سكبت ابتسامة، كل هذا وغيره ممكن في عالم الفن، عالم الشعر اللوني المدهش.

حبي للفن والفنانين ليس بدعة، فجل أرباب الذوق السليم والفطرة النقية يحبون الجمال، وصانعي الجمال، وحبي لهم كذلك يدفعني إلى تساؤلات شتى، تساؤلات طرحتها قبلا على بعضهم، لكني لم أجد إجابات مقنعة، وظلت سؤالاتي تعتمل في صدري كلما زرت معرضا فنيا، أو مرت أعمال فنية على شاشة جوالي.

لنتفق أولا أن الفنان صاحب نظرة خاصة للجمال، يقتنص الجمال أينما كان، خاصة ذلك الجمال المستور عن أعيننا، ثم يصبه في قالبه الفني لنستطيع مشاهدته، وقد قالوا عن فن الطبيعة المجرد إن الفنان أحال نفسه مجرد (كاميرا) تنقل المنظر، وهذا صحيح بنسبة كبيرة، فالفنان رأى الجمال الذي نراه فنقله، وكيف له أن يدهش، فالفنان الحقيقي هو الوسيط بيننا وبين الجمال الذي لا تكتشفه حواسنا، أما ناقل الجمال المحسوس فهو كشاعر المنظومات العلمية في رأيي.

لا يمكن أن يختلف البشر قديما وحديثا على جمال الخيول والعصافير والصقور والنساء والأطفال والورود، وكل هذا جمال محسوس، وللأسف جل معارضنا وما يصل إلى 80% من معروضاتها لا تخلو من هذه الأيقونات الجمالية (المستهلكة)، حتى صار أكثرنا لا يتوقف أمام كثير من اللوحات إلا للبحث عن شيء مختلف في هذه الأعمال، وغالبا ما يكون الاختلاف في أسلوب الفنان وألوانه وطريقة تنفيذه أو زاوية رؤيته، لكن اللوحة لا تحمل فكرا، ولا تنقل إحساسا، فننصرف عنها سريعا.

أتساءل: هل بيئتنا فقيرة إلى الجمال إلى هذه الدرجة؟ ولماذا ينساق الفنان وراء الفكرة القارة في ذهنية المجتمع عن (الجميل/ والقبيح)؟ لماذا لا يقتحمون القبيح، ويثبتون أنه يحمل قدرا من الجمال هنا أو هناك؟ ولو تمثلنا للقبيح في الذاكرة الاجتماعية، فعندنا في الطائف قرود البابون مستقبحة اجتماعيا شكلا وطباعا، ولم أجد هذا الكائن الذي يشاركنا بيئتنا في لوحة فنان مما رأيت، هل أفهم أن الجمال الظاهري هو ما يجتذب الفنان، فإن كانت الإجابة: نعم، فلا يعد فنانا استثنائيا لأنه مثلنا تماما، وإن كانت: لا، فما المستقبح في ذهنيتنا واستطاع تجميله باقتناص جمال لا نراه؟

لو نظرنا للقردة بعيدا عن الشكل، فلن نعدم فيها الجمال، تأملوا التنظيم لهذه الكائنات، وروح القائد المدافع، وصعودها صباحا ونزولها عند الغروب، وحمل الأم لطفلها، وتفلية بعضها البعض من الحشرات، وسرعة حركتها وحذرها، وحزنها وغضبها وذكاءها، تأملوا إنسانيتنا معها، أو تعدينا عليها، أكل هذه الصفات والأفعال لم تستوقف فنانا؟ في كل المناطق التي تتكاثر فيها وتحتك بالإنسان؟

القردة والضب والغربان والبرشومي وسرطان البحر وأطفال التسول وضحايا الحوادث ليست إلا أمثلة على آلاف الكائنات من حيوانات ونباتات ومجموعات بشرية معاصرة، أو مثبتة في ثنايا تاريخنا البشري، أجدها جميعا موضوعات شبه غائبة عن معارض الفن التشكيلي المتخم بالتكرار، أو المعمّى بالسيريالية، أو المحترق بالمباشرة، لكن رغم كل هذا ما يزال الأمل يحدوني بأن نشاهد فنانين يقتحمون هذه الموضوعات وغيرها برؤية وبصيرة نافذة، ليفتحوا حواسنا على الجمال المستور، ويقربوا الفن إلى أذواقنا وأرواحنا، ويستفزوا ذوائقنا بما يدهش فعلا، حتى يخرج الفن من نخبويته ويصبح فعلا اجتماعيا حقيقيا لكل الشرائح والطبقات، وفي ذات الوقت يعبر عن ثقافتنا وبيئتنا وهويتنا وأفكارنا ورؤيتنا للكون والحياة.

@ahmad_helali