مرزوق تنباك

نقطة بيضاء في القارة السوداء

الثلاثاء - 07 أغسطس 2018

Tue - 07 Aug 2018

في أواخر القرن الماضي (1994) كان اسم رواندا يدور في الصحافة العالمية بأقبح صورة عرفها الإنسان، صورة القتل والحرب والتهجير بين الشركاء في الوطن والإخوان في المدينة والقرية، كانت الكراهية والبغضاء عنوان الأخبار التي تكررها في كل ساعة من نهار محطات العالم، وكان التوتسي والهوتو هما عناوين تلك الأخبار، والتجريم والإدانة العالمية لهذه الحرب المدمرة هما كل ما نسمع، وكنت أظن إلى عهد قريب وقد تظنون معي أن التوتسي قبيلة أفريقية عظيمة تسكن رواندا، وتفعل ما تفعل محافظة على كيانها القبلي وقوتها وسيطرتها، ولأن أفريقيا تجمعات قبلية فقد كان الانطباع لدي على الأقل أن الحرب القبيحة هي نتيجة التعصب القبلي البغيض وأن الهوتو القبيلة الأخرى معتدية على سيادة جارتها ظلما وعدوانا، وقد لقيت جزاء العدوان بمثله، فكانت حصيلة الحرب الضروس بينهما أكثر من مليون قتيل من الطرفين.

ألقت الحرب في رواندا أوزارها ونسيها الناس إلى عهد قريب حين عادت رواندا إلى الواجهة مرة أخرى، لكن عادت بصورة غير تلك الصورة الدموية التي بقيت في الأذهان عنها، قبل أكثر من عشرين سنة، غسلت الدولة الحديثة دماء الحرب ومسحت الكراهية وألقت عصا البغضاء وجنحت إلى السلم والتحضر والتطور والأمن والاستقرار، وأصبح (التوتسي) و(الهوتو) وكذلك الاسم الثالث الذي ما كان له شأن في الحرب (توا) جميعهم روانديين انتماء إلى البلد والمواطنة.

أما المهم بالنسبة لي وقد يكون بالنسبة لبعضكم فهو معرفة معنى التوتسي والهوتو والتوا التي كنا نظنها قبائل، لكن لم تكن هذه أسماء قبلية ولا عصبية عرقية، بل هي تمايز مادي بينهم، فمن يملك قطيعا من المال، والمال عندهم هو البقر، من يملك عشرا فأكثر فهو من التوتسي الأغنياء، ومن يملك أقل فهو من الهوتو متوسطي الثراء، ومن لا يملك شيئا فهم توا الفقراء.

أما مصدر هذه المعلومة التي قضيت عشرين سنة لا أعرفها فهو أخونا المربي القدير الدكتور عبدالعزيز الثنيان، حيث نورنا بمقال ضاف عن هذه الدولة نشرته سبق بعنوان لافت «ثلاثي الأبقار والكنائس والنظافة»، وتكرم بزيارة لمجلسنا وشرح للحاضرين ما شاهد وما رأى من انطباعاته عن هذه الدولة الناشئة. والدكتور عبدالعزيز قام مع عدد من الرجال السعوديين بزيارة يصفها بأنها للراحة والاستجمام لرواندا، أما أنا فأشم من الرحلة رائحة الاستثمار وقد يكون استثمارا للدارين وذلك فضل الله، وأنقل فقرة قصيرة من مقاله، والرائد لا يكذب أهله، يقول الدكتور عبدالعزيز الثنيان «مع قانون التسامح وقانون الأمل عادت الحياة لرواندا فجددوا قوانينهم وحاربوا الفساد وشجعوا على الاستثمار الخارجي، وأصبحت الدولة هي الأولى في الشفافية على الدول الأفريقية كلها، وضبط الأمن وحولت البقر من وسيلة تقاتل إلى وسيلة تعاون وبناء».

لم تكن مقالة الدكتور عبدالعزيز هي الوحيدة التي وصفت سرعة تطور رواندا، حيث بدأ يسطع نجم هذه الدولة الصغيرة التي تقبع في منطقة البحيرات العظمى شرق أفريقيا كنموذج يحتذى للتقدم وللنمو والتطور والنظام والانضباط والنظافة، أصبحت في هذه المدة القصيرة مثالا رائعا لم يخطر على بال أحد أن يتحقق لدولة خرجت من الحرب منهكة، ولم يتغير أهلها ولم تتغير مواردها، ولكن تغير نظامها وآمن أهلها بالمستقبل والسلم الاجتماعي والعدل بين المواطنين الذين ذاقوا ويلات الحرب وعرفوا مآسيها، فاتجهوا إلى المستقبل ونشطت السياحة وتوجه الناس إليها من الشرق والغرب للاستجمام وللاستثمار فوجدوا فيها كل مقومات الاستقرار.

رواندا نموذج رابع يضاف إلى سنغافورة وكوريا الجنوبية وإمارة دبي، تلك الدول حققت خلال عشرين سنة ما لم يتحقق في المحيط الجغرافي الذي يحيط بها. والسبب النظام السياسي والإدارة القادرة على التغيير.

Mtenback@