«فقدان الذاكرة الانتقائي لأوروبا»

الجمعة - 27 يوليو 2018

Fri - 27 Jul 2018

ازدواجية المعايير الأوروبية ونفاقها السياسي انكشف للعالم بعد عقود من تسويق جيد كحكومات ذات أنظمة ديمقراطية مراعية لحقوق الإنسان والأكثر أخلاقا وإنسانية، الأجدر بالقول أنها تتغنى بذلك إن كانت لها منفعة اقتصادية أو عسكرية، وتغض طرف الإنسانية إن لم تعد لها أي منفعة.

هذا ما رأيناه في سيناريو «الاتفاق النووي الإيراني» عندما كانت الدول الأوروبية تبحث بشراسة عن اتفاق دولي بحجة إقصاء الخطر النووي الإيراني وإعادة العلاقات بين إيران والعالم. هذه المزاعم لتحقيق الاتفاق عبارة عن غطاء شفاف للمصلحة الاقتصادية التي طمحت أوروبا في تحقيقها، وبعد توقيعه بأقل من شهر تم طرح عشرات المشاريع الأوروبية على طهران. ولكن، وعندما توقفت المنفعة المالية للاتفاق النووي بعد انسحاب أمريكا منه، أعلنت أوروبا عن استسلامها وانسحاب شركاتها، ففضلت مصلحتها على الاتفاق. ولنعترف أن ما قامت به أوروبا أمر واقعي غير مستغرب، فهي حكومات تبحث عن مصالحها الاقتصادية أولا وأخيرا، ولكن المستغرب منها الادعاء العكس في محاولة لاستغفال العالم.

أما فقدان الذاكرة الانتقائي لأوروبا فهو كوضوح الشمس في مسألة تضخيم وتكتيم إبادات جماعية حدثت في القرن الماضي. فإن الاتحاد الأوروبي يتجاهل ما يعد أكبر الإبادات الجماعية في العالم والتي حدثت في الكونغو الأفريقية بسبب أن دولة بلجيكا هي المسؤولة عما حدث. بدأت المجازر بمزاعم خيرية وإنسانية عندما أعلن الملك ليوبولد في لقاء صحفي «عن مشروعه الخيري لمحاربة الفقر والعبودية ونشر المسيحية بين قبائل الكونغو الفقيرة كواجب مسيحي لن يتقاضى على أثره أي مبلغ مالي». الهدف الإنساني (1885إلى 1908) أدى إلى مقتل أكثر من عشرة ملايين أفريقي وسرقة خيرات البلاد المعدنية والزراعية ليزداد السيد الأبيض ثراء على حساب سكان الكونغو الفقراء، فعاش الشعب الأفريقي في جحيم ممارسات وطمع الأوروبيين وتم تعذيب العمال وقتل عوائلهم وتقطيع أطراف أطفالهم لإلزامهم على جمع المطاط لتصديره لاحقا إلى أوروبا. بحر الدم الذي حدث في قلب أفريقيا لم يحرك إنسانية الحكومات الأوروبية ولا يوجد ليومنا هذا أي مساع أو مطالبات لحث بلجيكا على الاعتراف أو على الأقل الاعتذار لدولة وشعب الكونغو.

ولكن الانتقائية الإنسانية نراها في المطالبات الأوروبية الحثيثة والمواجهات المكررة مع دولة تركيا واتهامها بمجازر الأرمن والتي حدثت بعد إبادة الكونغو بعشرين سنة تقريبا «1915-1917». لانريد أن نستهين ببشاعة ما حدث في مجازر الأرمن، فقد قتل فيها مليون أرمني في ترحيل قسري من تركيا إلى الشام، مشيا على الأقدام بعد اتهامهم بالتواطؤ مع الجيش الروسي ضد الجيش العثماني، ولكن يبين لنا ازدواجية المعايير في الاتحاد الأوروبي الغريب، فحجم مصالحها مع تركيا لا تحتاج منها التغافل والتغاضي كفعلها مع جرائم بلجيكا. هذا ما يؤكد لنا صحة مقولة نيقولا ميكافيللي «السياسة ليس لها علاقة بالأخلاق».

ReaderRiy@