خالد العماري

الدهشة

الثلاثاء - 17 يوليو 2018

Tue - 17 Jul 2018

كثرت في هذا العصر صوارف القلب، وتعددت حجب العقل، وتنوعت مشاغل الفكر، وزادت مشاكل البدن، ولربما نجد اليوم شبابا صغارا يشتكون من النسيان، ويعانون من السرحان وضعف التركيز والقدرة الذهنية، رغم صغر أعمارهم وسذاجة تجربتهم الحياتية، مما زاد من معاناة الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات في الوصول بهؤلاء النشء إلى مستوى الوعي المقبول بالمواضيع الحياتية والاجتماعية وربما المصيرية!

ومن الحلول الأولية لتنبيه الذهن بشكل عام، وإحضار النفس والقلب للتوعية القصدية بأي موضوع، ما يسمى بالدهشة أو رفع القابلية للاندهاش، والتي تعين على استثمار فرص المواقف والحالات المفاجئة لفتح منافذ الوعي والوصول لدرجة من اليقظة قبل إلقاء الخطاب.

الدهشة والشدهة عند العرب سواء، فيقال: دَهِشٌ ومَشْدُوه، تعبيرا عن حالات الحيرة والارتباك والذهول الناشئة بدون سابق إنذار والتي تعتري الإنسان عند حدوث أمر غير متوقع، أو هي روعة تأخذ الإنسان عند استعظام شيء «روعة الاكتشاف»، وحتى نعرف ما هي الدهشة بشكل تقريبي علينا أن ننظر إلى الأطفال الصغار إذا دخلوا مكانا جديدا عليهم، أو قابلوا أناسا لأول وهلة، أو فاجأهم أحد بموقف أو شيء ما، عندها سنلاحظ كيف تتسع حدق عيونهم بشكل مفاجئ، وتظهر على وجوههم تعبيرات صادقة ومعبرة عن عنصر المفاجأة، وربما تهيمن عليهم حالة من الصمت واحتباس الأنفاس! هذه حالة دهشة!

الدهشة من أهم مفاتيح الوعي على الإطلاق؛ لأنها باختصار تحضر سمعك وبصرك بعد أن كانا غائبين، وتشهد قلبك بعد أن كان بعيدا، وتنبه نفسك بعد أن كانت غافلة، وبالدهشة تنتقل النفس من حال كائنة إلى حال ممكنة وغير متوقعة.

بالدهشة تنفتح النفس باتجاه مزدوج؛ فتكون مهيأة للواردات من خارجها، وربما تكشف عما بداخلها بتعبيرات لفظية وغير لفظية تعبر في الغالب عن عمق الذات ومكنون النفس ومخبوء القلب.

وهناك تعبيرات متعددة تتلو الدهشة: مثل الرعشة والقشعريرة، والدموع المفاجئة، أو الضحك المفاجئ، والانقطاع التام عما كان المندهش منشغلا به، وربما تثير الدهشة تساؤلات عميقة، بل ربما يصل الموضوع بالمندهش لاتخاذ قرار داخلي بشكل حقيقي وجازم، كقرار الحب أو العفو والصفح أو الندم أو الرغبة في المراجعة والتحول والانعطاف.

والناس يشتركون في الدهشة، وفي أصل انفعالهم بالمواقف المفاجئة لهم، لكنهم يتباينون ويختلفون بشكل واضح فيما يقوم بأذهانهم وأنفسهم من أفكار ومعان وقدرة على التفكير، وتجاوز للحظة الاندهاش إلى العزم الصادق على تجربة الوعي الجديدة.

وقد صور لنا القرآن الكريم حالات من الدهشة في مثل قصة موسى عليه السلام لما تجلى ربه للجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا وتاب لله وزاد إيمانه به، وفي ذهول المرضعة عن رضيعها عندما ترى زلزلة الساعة، وتضع كل ذات حمل حملها، ويكون الناس كالسكارى ويدركون شدة عذاب الله تعالى، وفي حال المجرمين يوم يقولون أبصرنا وسمعنا، ويطلبون الرجوع للدنيا! وفي النساء اللاتي قطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا، وأدركن سبب افتتان امرأة العزيز بيوسف عليه السلام، وقد عبر أبوتمام عن لحظة من لحظات الاندهاش التي تعرض للجميع عند رؤية الحسن والجمال بشكل مفاجئ، فقال:

قمر تبسم عن جمان نابت

فظللت أرمقه بعين الباهت

ما زال يقصر كل حسن دونه

حتى تفاوت عن صفات الناعت

سجد الجمال لوجهه لما رأى

دهش العقول لحسنه المتفاوت

كل هذه الأحوال وغيرها تؤكد تأثير الدهشة في وعي الإنسان، وفي الفلسفة يفرقون بين دهشة نيوتن ودهشة شوبنهاور، فالأولى اندهاش من أمور معتادة تتكرر على أسماعنا وأبصارنا وإلف نفوسنا، وتبحث عن إجابة علمية منطقية، والثانية دهشة فلسفية تبحث عن الحكمة المختبئة والغاية الماورائية نتيجة دهشة لا تحدث عادة، وأيا كان الفارق بينهما إلا أن الجميع يسلم بقوة وفاعلية وأثر الدهشة على الأنفس.

لذا حاول أن تدهش غيرك عندما تريد إيصال رسالة إليه، وتريده أن يستوعبها بشكل جيد، وفي المقابل حاول استثمار لحظات اندهاشك للتفكير جيدا في السؤالات العميقة والحالات التي يجب أن تنتقل عنها أو إليها، والكمالات التي ترجو بلوغها، والإخفاقات التي ينبغي لك تجاوزها.

وفي هذا العصر الموسوم بالثراء السمعي والبصري والمعلوماتي والتواصلي قد تتوارى الدهشة خلف هذا الكم الرقمي الهائل، فما عادت كثير من الأمكنة والأزمنة والأحوال تدهشنا لأنها ببساطة حضرت إلينا صوتا وصورة ومعلومة، وما عاد كثير من الجمال يدهشنا لاقترانه اليوم بسلوكيات السوق والتسويق الرخيص، وما عدنا نفرق في أحيان كثيرة بين الإدهاش والترويع والإفزاع لغلبة الفوضى والعبثية، وهذا مما يحتم علينا مزيدا من الاجتهاد والجهد للعودة للطبيعة، ومقاومة التسليع والتشيئة والرقمنة و»التسنيب» والمسخ للإنسان والحياة.

جميل أن نبقى حاضرين حاذقين لاستثمار دهشتنا بالأماكن في محاولة الوعي بها والقراءة عنها، والوعي بالأزمنة وتقلبات الليالي والأيام واستيعاب التاريخ والتعرف على المنجزات والنكسات الإنسانية، والوعي بالأفكار ونظارها وتدافعاتها، والوعي بالأحكام وأسبابها وأنساقها، والوعي بالمواقف وتطوراتها وتبدلاتها.

@ammarikh