مرزوق تنباك

صحوة الثقافة الشعبية

الثلاثاء - 03 يوليو 2018

Tue - 03 Jul 2018

منذ صدر كتاب الفصحى ونظرية الفكر العامي قبل أكثر من ربع قرن لم يعد الاهتمام مركزا بما يحدث من الجدل حول الفصحى والعامية، ولم يعد مهما بالنسبة لكثيرين من الناس الحديث عن سبب انتشار العامية وانتصارها على غيرها من النظم في أي لون من ألوان الشعر الشعبي، بل نقول انشغل الناس عن العامية والعامي وعن الفصحى والفصيح، وعن الأدب والشعر بكلا نوعيه بما هو أهم وأعظم على مستويين:

المستوى الأول، عصر ما أصبح يطلق عليه الصحوة التي شغلت الناس وملأت الدنيا وأصبح الحديث عنها يستغرق كل الوقت لدى المهتمين في الأدب في الداخل والخارج، وصار لا حديث أهم من الحديث عن الحلال والحرام والممنوع والمباح، وما يجب أن يفعل الإنسان وما لا يجب أن يفعل، وعن الجهاد والكفاح في مشارق الأرض ومغاربها، ومن هو مع الصحوة ووعاظها ومن هو ضدها، وكان الجدل واختلاف وجهات النظر لا يتركان للناس كثيرا من الوقت للتأمل فيما هو صحيح وفيما هو باطل في غير هذا المجال الحيوي عندهم وعند أعوانهم الذين لا يستهان بهم وإن كانوا قلة، ولكنها قلة مؤثرة فاعلة تتوجه في خطابها التعبوي إلى قطاع واسع من المجتمع الذي يسهل انقياده والتأثير عليه، ولم يغفلوا عن الصامتين أو المستمعين الذين لا يدخلون في دائرة الجدل مع أنهم جزء مهم يقاتل الصحويون من أجل كسبهم إلى جانبهم أو وقوفهم على الحياد في أحسن الأحوال. كان الجدل محتدما، وكانت الصحوة شغلا شاغلا للناس، وكل ما سوى الحديث عنها هو من فضول القول الذي لا يضيف جديدا في رأيهم.

من هذا المنطلق خفت الاهتمام بالثقافة المحلية الشعبية والشعر العامي خاصة، وخفت الاهتمام بالثقافة بشكل عام، وكاد الناس ينسون حتى أنفسهم في عباب القضايا الكبرى والمصيرية عندما ضرب الإرهاب ضربته الأولى في الخليج. وكان من المهم أن يشغل الأذهان عن غيره من الأمور، وانصرف اهتمام العامة والخاصة إلى الأمن والنظر في دوافع تلك الأعمال الخطيرة التي كانت طارئة على المجتمع الخليجي بوجه عام.

أما المستوى الثاني والأهم بالنسبة للشعر العامي والعامية الذي قدح قرائح الشعراء ووسع مجال نشاطهم وزاد من شعبيتهم، فهو مزايين الإبل ومهرجان أم رقيبة، حيث اجتمعت أهواء الشعراء الشعبيين مع تقليد عربي أصيل في الجزيرة العربية، فالإبل جزء أصل من ثقافة الصحراء والثقافة العربية، وهي سفن الصحراء، وقد حرك الاحتفال بها عاملا تاريخيا مهما وهو السباق القبلي

والتنافس المحموم على من يكون الفائز في هذا السباق، ومن يكون الشاعر الذي يقف الجمهور العريض يصفق له ويردد معه ما يقول في لسان عامي مبين عرف واشتهر في شمال الجزيرة ووسطها.

وكان من المطمئن في القديم أن جزءا كبيرا وغاليا من أهل المملكة لا يحسنون الشعر النبطي السائد في الوسط، ولا يستسيغون القول فيه، وأعني بذلك الجنوب، خاصة منطقة جيزان وأهلها، وهم نخبة المثقفين والعلماء المتمرسين في الفصحى والعربية الفصيحة، كان الأدب في جيزان عربيا خالصا وفصيحا رائعا، وكانوا هم الحجة على من يزعم أن الشعر العامي ضرورة للتعبير عن خلجات الأفئدة، فهم يحفظون العربية، ولم تضق قرائحهم في الإبداع فيها ولم يعجزوا عنها.

كنت أظن أن هذا الجزء الغالي من بلادنا قد استعصى على العامية ولم يعد لها به مطمع ولا مستمع، لكنني منذ أيام استمعت إلى شريط مسجل لأحد شباب تلك المنطقة يلقي قصيدة نبطية لا تقل في جودتها وعاميتها وروعتها عن شعر كبار شعراء العامية والنبطية في قلب نجد، بحق أنه مثلما أعجبتني قصيدته بكل مضامينها وفنياتها فقد ساءني أن تنتقل عدوى الشعر النبطي وعاميته إلى موطن الفصحى وحماتها.