أحمد الهلالي

السعودية الجديدة وضرورة العقل!

الثلاثاء - 26 يونيو 2018

Tue - 26 Jun 2018

عصرنا (علمي) بامتياز، عصر ينحي الروحانيات ويعدها أمرا فرديا يخضع لاختيار الإنسان، ويحتفي بالكفاءات والمنتجات والمؤتمرات العلمية (والعلمية فقط) على اختلاف أنواعها ومخرجاتها؛ لأن العلم هو القاسم المشترك الأكبر بين أبناء المعمورة، فالسيارة والطائرة وعلاج السكري ومبضع الجراح وقضايا المناخ وأجهزة البث وغيرها، لا يختلف اثنان على أهميتها وضرورتها للناس أجمعين، فليست قضايا عقدية أو فكرية أو لغوية أو سياسية تذهب فيها البشرية مذاهب شتى.

أما نحن في عالمنا العربي ـ للأسف ـ فمستهلكون، أكبر ما نقدمه للبشرية أننا متسامحون لا نمنع أبناءنا المختلفين عنا علميا (الكفاءات العلمية) من الهجرة إلى البيئات العلمية الحقيقية، ولأكون أكثر دقة فإن ثقافتنا تهجرهم لأننا لا نفهمهم أصلا، ولأنهم يدفعون (ما قدامهم وما وراهم) ليفارقونا إلى نعيم عقولهم العبقرية، ويحتفلوا بفراقنا، وربما نحتفل بخلاصنا من إزعاجاتهم ومطالبهم المكلفة، وليس عيبا ـ في عرفنا ـ أن نتباهى بانتمائهم العرقي لنا حين يصبحون شيئا مذكورا!

ونحن ـ أيضا ـ نتباكى على لغتنا، وعلى ثقافتنا، وعلى تخلفنا العلمي، لكننا في ذات الوقت نكرس ما يجعلنا نتباكى، حتى نملأ الفراغ الذي أحرجتنا به اليونيسكو ـ سامحها الله ـ في الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية مثلا، فنحن بلغاء في مدحها، وبلغاء في الذب عنها، وتوزيع التهم على العالمين الذين استهدفوها، وكذلك نفعل في يوم الأم، ويوم المسرح، ويوم ويوم ويوم، لكننا أبدا لا نلوم أنفسنا، ولا ثقافتنا، فحتى المثقفين تجدهم من أشطر الناس في النقد وجلد الذات (كما أفعل)، والقول بأهمية مراجعة التراث ومعرفة مواطن الخلل، لكنهم أبدا لا يراجعون، وينسون الأمر تماما، فلو سألت أحدهم عما جرى لتوصيات المؤتمر الفلاني، لذكر لك توصيات المؤتمرات السابقة جميعا مع عبارة (ما نزال ننتظر) ولا أدري من ينتظرون!

سعوديتنا الجديدة اليوم نستبشر بها خيرا كثيرا، نستبشر بتلك القرارات المختلفة، القرارات التي فاقت سقف توقعاتنا، نستبشر أن تركز عميقا على أهم قضايانا، قضية (الثقافة)، فلا يكفي أن ننقل التصنيع، وأن ننشئ المراكز العلمية، ما لم نركز على (بنية العقل العربي)، وأن نقنعه أننا خلقنا لنفكر تفكيرا منتجا، أن نمنح هذا العقل الأمل في الحياة، وأن نخلصه من قيود الخوف والتقديس والرهبة، أن نجعل هذا العقل المشلول يتحرك بثقة وجرأة في حقول العلوم والمعرفة، وأن نحرر مصطلح (العلم) من كل الشوائب التاريخية التي علقت به، وأن نجلو عن مصطلح (الحرية الفكرية) كل غبش وسوء ظن أطفأ بريقها.

أخيرا، أتذكر مقولة للدكتور محمد الصفراني، فحواها أن التقنيين والحرفيين لا يصنعون حضارة، فصانع الحضارة الحقيقي هو المثقف والمفكر والفيلسوف، إذ يفتح عقله آفاقا ويبني نظما فكرية لأولئك، فتبدع فيها عقولهم بما آتاها الله من دقة النظر، ولنا في الحضارة العربية القديمة والحضارتين الغربية والشرقية المعاصرتين المثل الأنقى.

ahmad_helali@