البدعة والمجتمع
الخميس - 07 يونيو 2018
Thu - 07 Jun 2018
أُثِرَ عنْ شيخ العربيَّة العلَّامة محمود محمَّد شاكر أنَّه كان يقول: «إنَّ المكتبة العربيَّة كتابٌ واحد»، وكان يَعْنِي أنَّ الثَّقافة العربيَّة يُسْلِم بعضها إلى بعض، وإذا أُرِيدَ بيان ذلك بلسان هذا العصر قيل: إنَّ تلك الثَّقافة، مهما اختلفتْ أشكالها، يحكمها نظام معرفيٌّ واحد، وعساك تتهدَّى إلى مسألةٍ في الفقه مِنْ كتابٍ في النَّحو، ومُشْكِلٍ في التَّوحيد في حاشيةٍ في البلاغة، وكان العلَّامة محمود الطَّناحيّ، رحمه الله، لَهِجًا بهذه العبارة مفتونًا بها، وإنَّه وقع على بيان ذلك في أثناء اشتغاله بكتاب طبقات الشَّافعيَّة الكبرى للسُّبكيّ، فهذا الكتاب المعدود كتاب تراجم وتاريخ، عُرِضَتْ فيه مذاهب القوم في الفُرُوع الفقهيَّة، والنَّحْو، واللُّغة، والأدب، حتَّى عُدَّ مصدرًا مهمًّا في كلّ أُولئك، كما هو الحال في التَّراجم والتَّاريخ.
وأذكر أنَّني وقعْتُ على شيءٍ مِنْ ذلك في مناسك الإمام النَّوويّ، رحمه الله. أَسْلَمَنِي حديثه المفصَّل في مناسك الحجّ على ناحيةٍ مِنْ نواحي التَّاريخ والاجتماع في المشاعر المقدَّسة. صحيحٌ أنَّ الإمام النَّوويّ ساق ذلك الخبر معترضًا على ما فيه مِنْ «بِدْعةٍ» تخالف صحيح الدِّين، وأنَّه كان يَعْنُف بها ويستنكرها = لكنَّ «البِدْعة» تلك هي أثرٌ تاريخيّ واجتماعيّ نفيس، يَفْرَح لها المؤرِّخ وعالم الاجتماع، مهما أغضبَتِ الفقيه وأخرجتْه عنْ سكينته.
قال الإمام النَّوويّ:
«ومِنَ البِدَع القبيحة ما اعتاده العَوَامُّ في هذه الأزمان مِنْ إيقاد الشَّمْع بجبل عَرَفَات ليلة التَّاسع، وهذه ضلالةٌ فاحشة جَمَعُوا فيها أنواعًا مِنَ القبائح: مِنْها إضاعة المال في غير وجهه، ومِنْها إظهار شِعَار المَجُوس في النَّار، ومِنْها اختلاط النِّساء بالرِّجَال والشُّمُوعُ بينهم ووُجُوهُهُنَّ بارزةٌ، ومِنْها تقديم دُخُول عَرَفَات على وقته المشروع، ويجب على وَلِيِّ الأمر وكُلِّ مَنْ يتمكَّن مِنْ إزالة هذه البِدَع إنكارُها وإزالتُها، والله أعلم».
فهذه الفقرة العزيزة، دَلَّتْ، في نظر الفقيه، على «بِدْعةٍ» يجب التَّشنيع عليها، وهذه «البِدْعة» دَلَّتِ المؤرِّخ على لونٍ مِنْ ألوان الفَرَح، اصطنعه الحجيج، آنئذٍ، فأوقدوا الشُّمُوع في جَبَل عَرَفَات، وأنَّ النِّساء اختلطْنَ بالرِّجَال في تلك اللَّيلة، ولك أنْ تُجِيل في خيالك هيئة تلك اللَّيلة، وهيئة الشُّمُوع المتَّقدة، وهيئة جَبَل الرَّحمة، إنَّها، لا شَكَّ، صُورة ستُرْضِي الفنّ مهما أَخَلَّتْ بصفاء النُّسُك!
والحقُّ أنَّ ما جاء في مَناسِك النَّوويّ ليس بالأمر البِدْع، ذلك أنَّ كُتُب الفقه تَحْمِل مِنْ ذلك قَدْرًا كبيرًا، والفقه ليس مبتوتًا عنْ حياة النَّاس، حتَّى نستنكر ورود مِثْل هذه الحوادث والأخبار، ولكنَّه يحيا بهم ويسير بينهم، ويستمِدُّ أسباب تَرَقِّيه مِنْهُم، وإنَّ كُتُب «الفتاوي» لَتَقِفُنا على المشكلات الَّتي كابَدَها مجتمعٌ ما في زمانٍ بِعَيْنه، وخُذْ أيَّ كِتَابٍ في «النَّوازل» الَّتي تَنْزِل بالنَّاس، في عصرٍ مِنَ العُصُور، واقرأْ أسئلة المستفتين، إنَّك واجِدٌ أجوبة في الفقه، تَطْوِي في باطنها صورة ذلك المجتمع، على نَحْوٍ لا تستطيع كُتُب التَّواريخ له وفاءً، واتَّفق لي أنْ طالعْتُ «الفتاوي الفقهيَّة» و»الفتاوي الحديثيَّة» لابن حجر الهيتميّ، مفتي الشَّافعيَّة في مكَّة المكرَّمةـ إبَّان القرن العاشر الهجريّ = فخرجْتُ مِنْ تلك الفتاوي بهيئة المجتمع وصُورته ومشكلاته وهُمُومه، مهما اتَّصلتْ أسئلة المستفتين بالفقه والتَّوحيد والدِّين.
واتَّفق لي أنْ أقرأ في «البِدَع» كتابًا فريدًا في بابه، وهو كتاب المَدْخَل لابن الحاجّ، المتوفَّى سنة 737هـ، ومتى قرأ الفقيه وعالِم الدِّين هذا الكتاب، فسيُرشده إلى تلك «البِدَع» الَّتي شاعتْ في أواخر القرن السَّابع والثُّلُث الأوَّل مِنَ القرن الثَّامن، وفي الكتاب حديثٌ مبسوطٌ يُقَوِّيه الدَّليل والرَّأي، على أنَّ في الكتاب - مهما ضَيَّقَ على النَّاس وَشَدَّدَ عليهم النَّكير - صُورةً لذلك العهد، وللمجتمعات العربيَّة، وقتئذٍ، وعندي أنَّه يُظْفِر المؤرِّخ وعالم الاجتماع بما يظنُّه أحدهما أوْ كلاهما عزيزًا نادرًا لو اقْتُصِرَ على كُتُب التَّاريخ، وحَسْبُ أحدنا أن يُقَلِّب النَّظر في تلك «البِدَع»، وأن يَعُدَّها مُعَبِّرةً عنْ حياة النَّاس، وإنَّه إنْ فَعَلَ ذلك سيظهر على ألوان طريفةٍ مِنْ ترقِّي المجتمع في درجة الحضارة، في المأكل والملبس والمشرب، وفي العُمران، والاقتصاد، والحِرَف والصَّنائع، وسيفُوز بوفرٍ مِنَ المصطلحات الَّتي اصطنعها النَّاس في حياتهم تلك، في كِتَابٍ أراد له صاحبه أن يُرْشِدَ النَّاس إلى اتِّقاء «البِدَع» واجتنابها!
مادَّة الكِتاب غزيرةٌ، بلْ غزيرةٌ جِدًّا، وكُلَّما مَضَيْتَ فيه يقع في وهمك أنَّك تعيش في القرن السَّابع أو الثَّامن، تَعْرف أزياء الرِّجال والنِّساء، وألوان مَعاشهم، ويكاد الكِتَاب يُحيط بطبقات النَّاس عامَّةً، فمِنْ «بِدَع» المؤذِّنين والمؤدِّبين والمُصَلِّين، إلى «بِدَع» الطَّحَّانين واللَّبَّانين والبَزَّازين، ويُسْلِمُك الحديث عن العطَّارين والبقَّلين، إلى تَعَرُّف أحوال الأسواق، فإذا وقفْتَ عليها اتَّصَلْتَ بجمهرة واسعة مِنْ مصطلحات أهل الصَّنعة، فإذا أتَيْتَ على آخر صفحة في الكِتَاب، واستوفيْتَ ما فيه، كان مِنْ نَصِيبكَ أنْ عَرَفْتَ العَصْر، وألَمَمْتَ بثقافته، وستَعْجَب، لا شَكَّ، مِن استيعاب هذا الكتاب لكلِّ ما دَبَّ ودَرَجَ في المجتمع، وتستطيع أنْ تَعْتَدَّه مَعْلَمةً في فقه المجتمع والحضارة، كما هو مَعْلَمةٌ في الفقه والدِّين، بلْ إنَّكَ واجدٌ فيه حديثًا مبسوطًا عن «الوَرَّاقِين» و»النَّسَّاخِين»، عساه يفيد مؤرِّخ الثَّقافة فوق ما كان يظنُّه ويَرْجوه، ولقدْ وَقَعْتُ في مَدْخل ابن الحاجّ على طرائفَ في الحضارة والثَّقافة، قَلَّما وقعْتُ على مَثِيلٍ لها في كُتُب التَّاريخ والأدب، ورُبَّما كان مُناسِبًا أنْ أختم حديثي بشيْءٍ يُقَوِّي ما أُنْشِئَ المقال له، ولعلَّ الفصل الَّذي عَقَدَه ابن الحاجّ على «بِدَع التَّسحير والمُسَحِّرين» أن يَفِي بالغاية، ما دُمْنا في شهر رمضان المبارك.
و»التَّسحير» لا أصل له عند ابن الحاجّ وجمهرة مِنَ الفقهاء، ويكفينا مِنْ تَشْنيعه على هذه «البِدْعة» بيان ما عليه أهل نواحٍ واسعةٍ مِنْ بلاد المسلمين، وأنَّه يُعَرِّفنا هيئة المُسَحِّر الَّذي يَطُوف بالأزقَّة والحارات، وفي يده «طبلةٌ» يضرب عليها، فأمَّا أهل الإسكندريَّة وأهل اليمن وبعض أهل المغرب «فيُسَحِّرون بِدَقِّ الأبواب على أصحاب البيوت وينادون عليهم: قوموا كُلُوا... وأمَّا أهل الشَّام فإنَّهم يُسَحِّرون بِدَقِّ الطَّار وضَرْب الشَّبَّابة والغناء والهُنوك والرَّقص واللَّهو واللَّعِب... وأمَّا بعض أهل المغرب فإنَّهم يفعلون قريبًا مِنْ فِعْل أهل الشَّام؛ وهو أنَّه إذا كان وقتُ السَّحور عندهم يضربون بالنَّفير على المنار ويكرِّرونه سبع مرَّات، ثُمَّ بعده يضربون بالأبواق سبعًا أوْ خمسًا، فإذا قَطَعُوا حَرُمَ الأكل إذْ ذاك عندهم».
فإذا أتمَمْتَ هذا الفصْل وسِوَاه مِنَ الفُصُول، فأيسرُ ما تفعله أنْ تشكر ابن الحاجّ على أنْ قَيَّدَ تلك «البِدَع»، وأنْ أظهرَنا فيها على ألوانٍ مِنَ الفنون، والتَّقاليد، فَعَرَفْنا مِنْ أمر تاريخنا فوق ما كُنَّا نَعْرِفه.
@hussain_bafagih
وأذكر أنَّني وقعْتُ على شيءٍ مِنْ ذلك في مناسك الإمام النَّوويّ، رحمه الله. أَسْلَمَنِي حديثه المفصَّل في مناسك الحجّ على ناحيةٍ مِنْ نواحي التَّاريخ والاجتماع في المشاعر المقدَّسة. صحيحٌ أنَّ الإمام النَّوويّ ساق ذلك الخبر معترضًا على ما فيه مِنْ «بِدْعةٍ» تخالف صحيح الدِّين، وأنَّه كان يَعْنُف بها ويستنكرها = لكنَّ «البِدْعة» تلك هي أثرٌ تاريخيّ واجتماعيّ نفيس، يَفْرَح لها المؤرِّخ وعالم الاجتماع، مهما أغضبَتِ الفقيه وأخرجتْه عنْ سكينته.
قال الإمام النَّوويّ:
«ومِنَ البِدَع القبيحة ما اعتاده العَوَامُّ في هذه الأزمان مِنْ إيقاد الشَّمْع بجبل عَرَفَات ليلة التَّاسع، وهذه ضلالةٌ فاحشة جَمَعُوا فيها أنواعًا مِنَ القبائح: مِنْها إضاعة المال في غير وجهه، ومِنْها إظهار شِعَار المَجُوس في النَّار، ومِنْها اختلاط النِّساء بالرِّجَال والشُّمُوعُ بينهم ووُجُوهُهُنَّ بارزةٌ، ومِنْها تقديم دُخُول عَرَفَات على وقته المشروع، ويجب على وَلِيِّ الأمر وكُلِّ مَنْ يتمكَّن مِنْ إزالة هذه البِدَع إنكارُها وإزالتُها، والله أعلم».
فهذه الفقرة العزيزة، دَلَّتْ، في نظر الفقيه، على «بِدْعةٍ» يجب التَّشنيع عليها، وهذه «البِدْعة» دَلَّتِ المؤرِّخ على لونٍ مِنْ ألوان الفَرَح، اصطنعه الحجيج، آنئذٍ، فأوقدوا الشُّمُوع في جَبَل عَرَفَات، وأنَّ النِّساء اختلطْنَ بالرِّجَال في تلك اللَّيلة، ولك أنْ تُجِيل في خيالك هيئة تلك اللَّيلة، وهيئة الشُّمُوع المتَّقدة، وهيئة جَبَل الرَّحمة، إنَّها، لا شَكَّ، صُورة ستُرْضِي الفنّ مهما أَخَلَّتْ بصفاء النُّسُك!
والحقُّ أنَّ ما جاء في مَناسِك النَّوويّ ليس بالأمر البِدْع، ذلك أنَّ كُتُب الفقه تَحْمِل مِنْ ذلك قَدْرًا كبيرًا، والفقه ليس مبتوتًا عنْ حياة النَّاس، حتَّى نستنكر ورود مِثْل هذه الحوادث والأخبار، ولكنَّه يحيا بهم ويسير بينهم، ويستمِدُّ أسباب تَرَقِّيه مِنْهُم، وإنَّ كُتُب «الفتاوي» لَتَقِفُنا على المشكلات الَّتي كابَدَها مجتمعٌ ما في زمانٍ بِعَيْنه، وخُذْ أيَّ كِتَابٍ في «النَّوازل» الَّتي تَنْزِل بالنَّاس، في عصرٍ مِنَ العُصُور، واقرأْ أسئلة المستفتين، إنَّك واجِدٌ أجوبة في الفقه، تَطْوِي في باطنها صورة ذلك المجتمع، على نَحْوٍ لا تستطيع كُتُب التَّواريخ له وفاءً، واتَّفق لي أنْ طالعْتُ «الفتاوي الفقهيَّة» و»الفتاوي الحديثيَّة» لابن حجر الهيتميّ، مفتي الشَّافعيَّة في مكَّة المكرَّمةـ إبَّان القرن العاشر الهجريّ = فخرجْتُ مِنْ تلك الفتاوي بهيئة المجتمع وصُورته ومشكلاته وهُمُومه، مهما اتَّصلتْ أسئلة المستفتين بالفقه والتَّوحيد والدِّين.
واتَّفق لي أنْ أقرأ في «البِدَع» كتابًا فريدًا في بابه، وهو كتاب المَدْخَل لابن الحاجّ، المتوفَّى سنة 737هـ، ومتى قرأ الفقيه وعالِم الدِّين هذا الكتاب، فسيُرشده إلى تلك «البِدَع» الَّتي شاعتْ في أواخر القرن السَّابع والثُّلُث الأوَّل مِنَ القرن الثَّامن، وفي الكتاب حديثٌ مبسوطٌ يُقَوِّيه الدَّليل والرَّأي، على أنَّ في الكتاب - مهما ضَيَّقَ على النَّاس وَشَدَّدَ عليهم النَّكير - صُورةً لذلك العهد، وللمجتمعات العربيَّة، وقتئذٍ، وعندي أنَّه يُظْفِر المؤرِّخ وعالم الاجتماع بما يظنُّه أحدهما أوْ كلاهما عزيزًا نادرًا لو اقْتُصِرَ على كُتُب التَّاريخ، وحَسْبُ أحدنا أن يُقَلِّب النَّظر في تلك «البِدَع»، وأن يَعُدَّها مُعَبِّرةً عنْ حياة النَّاس، وإنَّه إنْ فَعَلَ ذلك سيظهر على ألوان طريفةٍ مِنْ ترقِّي المجتمع في درجة الحضارة، في المأكل والملبس والمشرب، وفي العُمران، والاقتصاد، والحِرَف والصَّنائع، وسيفُوز بوفرٍ مِنَ المصطلحات الَّتي اصطنعها النَّاس في حياتهم تلك، في كِتَابٍ أراد له صاحبه أن يُرْشِدَ النَّاس إلى اتِّقاء «البِدَع» واجتنابها!
مادَّة الكِتاب غزيرةٌ، بلْ غزيرةٌ جِدًّا، وكُلَّما مَضَيْتَ فيه يقع في وهمك أنَّك تعيش في القرن السَّابع أو الثَّامن، تَعْرف أزياء الرِّجال والنِّساء، وألوان مَعاشهم، ويكاد الكِتَاب يُحيط بطبقات النَّاس عامَّةً، فمِنْ «بِدَع» المؤذِّنين والمؤدِّبين والمُصَلِّين، إلى «بِدَع» الطَّحَّانين واللَّبَّانين والبَزَّازين، ويُسْلِمُك الحديث عن العطَّارين والبقَّلين، إلى تَعَرُّف أحوال الأسواق، فإذا وقفْتَ عليها اتَّصَلْتَ بجمهرة واسعة مِنْ مصطلحات أهل الصَّنعة، فإذا أتَيْتَ على آخر صفحة في الكِتَاب، واستوفيْتَ ما فيه، كان مِنْ نَصِيبكَ أنْ عَرَفْتَ العَصْر، وألَمَمْتَ بثقافته، وستَعْجَب، لا شَكَّ، مِن استيعاب هذا الكتاب لكلِّ ما دَبَّ ودَرَجَ في المجتمع، وتستطيع أنْ تَعْتَدَّه مَعْلَمةً في فقه المجتمع والحضارة، كما هو مَعْلَمةٌ في الفقه والدِّين، بلْ إنَّكَ واجدٌ فيه حديثًا مبسوطًا عن «الوَرَّاقِين» و»النَّسَّاخِين»، عساه يفيد مؤرِّخ الثَّقافة فوق ما كان يظنُّه ويَرْجوه، ولقدْ وَقَعْتُ في مَدْخل ابن الحاجّ على طرائفَ في الحضارة والثَّقافة، قَلَّما وقعْتُ على مَثِيلٍ لها في كُتُب التَّاريخ والأدب، ورُبَّما كان مُناسِبًا أنْ أختم حديثي بشيْءٍ يُقَوِّي ما أُنْشِئَ المقال له، ولعلَّ الفصل الَّذي عَقَدَه ابن الحاجّ على «بِدَع التَّسحير والمُسَحِّرين» أن يَفِي بالغاية، ما دُمْنا في شهر رمضان المبارك.
و»التَّسحير» لا أصل له عند ابن الحاجّ وجمهرة مِنَ الفقهاء، ويكفينا مِنْ تَشْنيعه على هذه «البِدْعة» بيان ما عليه أهل نواحٍ واسعةٍ مِنْ بلاد المسلمين، وأنَّه يُعَرِّفنا هيئة المُسَحِّر الَّذي يَطُوف بالأزقَّة والحارات، وفي يده «طبلةٌ» يضرب عليها، فأمَّا أهل الإسكندريَّة وأهل اليمن وبعض أهل المغرب «فيُسَحِّرون بِدَقِّ الأبواب على أصحاب البيوت وينادون عليهم: قوموا كُلُوا... وأمَّا أهل الشَّام فإنَّهم يُسَحِّرون بِدَقِّ الطَّار وضَرْب الشَّبَّابة والغناء والهُنوك والرَّقص واللَّهو واللَّعِب... وأمَّا بعض أهل المغرب فإنَّهم يفعلون قريبًا مِنْ فِعْل أهل الشَّام؛ وهو أنَّه إذا كان وقتُ السَّحور عندهم يضربون بالنَّفير على المنار ويكرِّرونه سبع مرَّات، ثُمَّ بعده يضربون بالأبواق سبعًا أوْ خمسًا، فإذا قَطَعُوا حَرُمَ الأكل إذْ ذاك عندهم».
فإذا أتمَمْتَ هذا الفصْل وسِوَاه مِنَ الفُصُول، فأيسرُ ما تفعله أنْ تشكر ابن الحاجّ على أنْ قَيَّدَ تلك «البِدَع»، وأنْ أظهرَنا فيها على ألوانٍ مِنَ الفنون، والتَّقاليد، فَعَرَفْنا مِنْ أمر تاريخنا فوق ما كُنَّا نَعْرِفه.
@hussain_bafagih