التيه

السبت - 02 يونيو 2018

Sat - 02 Jun 2018

من سنن الله في الكون أن جعل التغير أحد سماته، والتطور هدف الإنسان في أرضه لتحقيق الخلافة والإعمار، فهو في صراع مستمر مع واقعه من جهة وطموحاته وآماله من جهة أخرى. ورغم إيمانه الكامل بأن لكل زمان دولة ورجالا، وأن بقاء الحال من المحال، إلا أنه يستمر في التمرد لتحقيق الذات، أملا في الحفاظ على المألوف الذي يشعره بالأمان.

كان الآباء والأجداد يستنكرون أفعالنا التي كنا نمارسها، وهي بالتأكيد من وجه نظرنا أمر طبيعي، إلا أنها لا تنسجم مع أفكارهم ونمط الحياة السائد حينذاك. ومع ذلك كانت ردود أفعالنا لا تتجاوز محاولة التطبيع مع تلك الأفكار قدر الإمكان، لنصل إلى تعايش فكري يقودنا إلى نقطة الأمان.

ولم يدر بخلد أحدنا أن يأتي اليوم الذي نكون فيه عاجزين حتى عن فهم أنفسنا عطفا على فهم ما يدور في شواطئ أقرب محيط لعالمنا، وهو واقعنا اليوم وسط هذا الزخم الحياتي الذي انعدم فيه معنى الاحتواء.

والمفارقة التي نعيشها اليوم أنه لا أحد يريد التطبيع معنا كما فعلنا مع أسلافنا، بل على العكس من ذلك، فنحن تحت وطأة التطويع الممنهج لتقبل كل جديد بلا تردد أو تحييد. وهذه الغربة بددت عند البعض كل جميل، ولم يعد يميز بين الهوى والهوية، ولا الغاية من الغواية، فقد أصبحت القيم تراثا يستأنس به، وخبرات السنين باتت هامشية على رصيف الزمن، فهي خارج نطاق الخدمة لأنها لا تمت للحاضر بأي صلة، ولا تشبع رغبات المستقبل الجامح بكل تصوراته. والتساؤل الحاضر في أذهان أولئك هو مدى تقبلهم للعيش في تلك المتاهة، بين الانصهار بهذا التحول الجارف الذي تتسع دائرته يوما بعد آخر، أو البقاء قابعين فوق تلك الصخرة المنعزلة، ينتظر أحدهم حتفه متسلحا بما بقي معه من متاع تراثه المتراكم عبر مسافات الطريق.

وإلى أن يتحدد المصير بوصولنا إلى نقطة الاتزان، يستمر صراع الأجيال بين الإفراط في التجديد والتفريط بالماضي الأصيل، وما زالت الآمال تواقة لرؤية بصيص من النور يكشف سوأة الحاضر أو تجلي حقيقة لم تدركها عقولنا بعد، وإن غدا لناظره قريب.

الأكثر قراءة