الصيام والأخوة الإيمانية

الخميس - 24 مايو 2018

Thu - 24 May 2018

في السنة الثانية من هجرة المصطفى في شهر شعبان فرض الصيام، وفي السنة نفسها فرضت الزكاة كذلك. وعندما أمعنت الفكر في فرض الصيام في بداية تكوين الدولة الإسلامية ونشوء المجتمع المسلم في المدينة المنورة، رأيت المجتمع الذي كان يقوده رسول ويبنيه بمعية أصحاب اختارهم الله من خيرة الناس ليكونوا وزراء ومعاونين له في بناء الدولة الإسلامية الوليدة، ومن المعلوم أن أي أمة أو دولة تريد أن تنهض فلا بد من أن تجد مناوئين لها وحسادا، وعليها أن تقف بحزم وتتصدى لكل من يحاول أن يؤخر نماءها أو الحيلولة دون قيامها، إن أرادت الاستمرار وفرض ما أخذت على كاهلها وعاهدت ربها لتبليغها للناس.

وبما أن دولة الإسلام سترتقي من كونها دولة إلى أمة تحتاج إلى قوة قوامها التكاتف والتعاضد والوقوف صفا واحدا لا خلل فيه لمواجهة كل المؤامرات التي تحاك ضدها، ولا سيما أن اليهود يساكنون المسلمين في المدينة، والذين لم يألوا جهدا في إذكاء نار العداوة والبغضاء بين الأوس والخزرج (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله)، قبل أن تدركهم يد العناية الإلهية بإرسال الرسول الخاتم والرحمة المهداة للبشرية قاطبة وقدومه إلى مدينتهم وتوحيدهم تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وكان لا بد من التكاتف في هذه المرحلة الحرجة من ولادة الدولة الإسلامية، هنا فرض الله سبحانه وتعالى الصيام لكي تتكاتف الأمة ويحنو الغني على الفقير، فعندما يحس الغني بالجوع حين صيامه هذا الشهر سيتذكر إخوة له يقضون طوال العام في الجوع الذي يشعر به الآن، فيحث النفس على البذل والعطاء رأفة بإخوانه المؤمنين الذين يتبعون نفس الدين. نعم فرض صيام شهر رمضان المبارك على كل المسلمين المدركين، فالصيام يصقل ويصفي الأرواح وفيه روحانية عجيبة الكل في هذه الفريضة سواء الأغنياء والفقراء، إنها الأخوة الإيمانية التي قدرها الله عالم الغيب وعالم خفايا النفس البشرية فأدبها بالصيام ليشعر الناس ويستشعروا إخوتهم، لقد وحد الإسلام معتنقيه وجعل الرابطة الإسلامية هي التي تحكم، لا كما يدعي بعض محدودي الأفق من المغرضين أصحاب الأيديولوجيات المنحرفة عن الجادة بأن أخوة التراب أقوى آصرة من أخوة الدين والمعتقد، ويغيظهم أن يكون أخي في أقصى أحراش آسيا أو مجاهيل وغابات أفريقيا لأنه يحمل معتقدي وديني فأرادوها قومية تفكك عرى المسلمين، كما قال شاعرهم (القروي) رشيد سليم الخوري:

إني على دين العروبة واقف

قلبي على سبحاتها ولساني

إنجيلي الحب المقيم لأهلها

والذود عن حرماتها فرقاني

وأرادوها جاهلية عنصرية قبلية والذي ينادي قائلهم (لكذاب ربيعة خير لي وأحب من صادق مضر)، وما زالوا يمعنون في ضيق الأفق ومحدودية الثقافة الجادة الحقيقية فنادوا بالشعوبية والمناطقية والتقوقع والعنصرية التي عفى عليها الزمن، فأصيبت بالعفن وأصبحت منتنة لا خير فيها ولا أمل يرجى منها، فقد وضعها الرسول الكريم تحت قدميه وقال «دعوها فإنها منتة» وهم يجاهدون في أحيائها وبعثها من موتها ليسهل عليهم تفكيك الأمة وصرفها عن قيمها ومبادئها وإسلامها، وإن أردتم دليلا فخذوا نظرة فاحصة على قنوات التواصل ستجدون الجواب، ولكن صدق الله حين قال «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون».

نعم الصيام يقوي آصرة الأخوة الإيمانية، لذلك ترى الهجوم الشرس يشتد في رمضان وتطل كل خفافيش الظلام برؤوسها، والصادقون من المسلمين ماضون في فريضتهم لا يهمهم نعيق البوم ولا يثنيهم صياح الأبالسة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

ولكي تزداد آصرة الأخوة متانة فقد فرضت الزكاة في نفس هذه السنة، فيرد الغني بعض ماله لأخيه الفقير، إنه التكافل الاجتماعي في أسمى معانيه، ألم أقل لكم إن هذا الدين يعمل على تقوية الأخوة ليواجه القوى العاتية التي تريد أن تمحوه إن استطاعت وهيهات، فإن الله ذو الحول والطول والجبروت هو من تكفل بحمايته والله لا يغلبه أحد، سبحانه.

فعلى المسلمين أن يستشعروا الحكمة من فرض الصيام ويدركوا أن هذا الشهر ليس لإعداد الموائد والتفنن في المأكل والمشرب أبدا، إنه شهر يصقل الروح ويهذب النفس ويكسر شهوتها ويحبب الناس إلى بعضهم، هذه بعض من حكمة فرض الصيام.