رمضان.. حلم أذان المغرب!

الخميس - 24 مايو 2018

Thu - 24 May 2018

يعاودني الحنين المخضب بالشجن كلما لاحت في ناظري طلقات التباشير الحمراء بحلول شهر رمضان المعظم، ويأخذني رمضان معه في رحلة الطفولة، واختزالات الذكريات، وقريتي التهامية الحسناء وما أجمل رمضان القرى، وهي تعانق هلاله عند كل غروب، هناك نحو طفولة لم تزل تعيش رمضان بشغف اللهفة واللوعة وذهول اللقاء.

رمضان الدكان والفوانيس وحكايات العم إبراهيم ترسم ملامح حروفه الخمسة، وتراتيل تستلقي في آخر أنفاس مذيع الأخبار وهو يعلن عن رؤية هلال رمضان.

هناك يا رمضان نلتقي في مسجدنا الصغير حيث نحمل مع أبي رطبا جنيا نقسمها على بيوت القرية يرافقنا أخي الأصغر سنا، وفي المساء يعاودني صوت شاب نحيل أسمر يصطف خلفه شيوخ قريتي الباقون والراحلون الذين لا يعودون إلا في رمضان، ولا يصلون في غير رمضان إلا في مسجدهم الصغير القديم، كأنهم يلقون دثار أرواحهم فتلتحف به كل شرايين قريتي حياة تحنو لأرواحهم.

ومضيت فيك يا رمضان أعيد في من روح وحيك وابتهالاتك، وما زلت معك أعشق خبز أمي وأطباق الجيران الشهية، ومسلسل أم حديجان، وعلى مائدة الإفطار وموسيقى رمضان وبركة رمضان على ألسنة الجدات ما زلت يا رمضان كبيرا عظيما.

كل الشهور تبدأ صغيرة ثم تكبر إلا أنت وجدت هكذا شيخا وقورا ذا لحية بيضاء ولباس أبيض وقلب أبيض يجتمع بأحفاده كل عام.

رمضان حكايات المغتربين الذين ما زالوا يحلمون بالأوطان، وفي رمضان تتجلى صور الإنسانية في كل أقطار وطننا العربي، ولكنها أكثر جمالا في السودان حيث الطرق السريعة تعتصب بعمائم الكرم فلا تسمح للمسافرين بالعبور حتى يقف «الزول» منهم ويتناول وجبة الإفطار، في رمضان السودان أشبه بمسحة على رأس يتيم، أو إطعام في يوم ذي مسغبة. وفي رمضان تكاد تناوشني أيادي التائبين في ازدحام الأنفاس والبكاء في خلد رحمة ومغفرة وعتق من النيران، هناك تتكسر مجاديف الخوف والظمأ والجوع على ساحل كفين وارفتين بالتجاعيد تحملان ترسا محملا بإفطار مغرب غرة رمضان. وهل لنا غير رمضان نجتمع على مائدته؟!

كأني قد استأنست برمضان ضيفا كريما يستجمع شيوخ قريتي على قلب وحصير واحد، بينهم سائل صدقة وعابر سبيل وغريب هاجرت به أحلامه بحثا عن لقمة عيشه. قد ساقتهم الدنيا صدفة معنا أو رحمة بنا أو كما يقول أحدهم: ومن مستحبات الشهر الفضيل تعجيل الفطور، وتأخير السحور!

وما زلت في قلب الحكاية أسترق نظرات شوق لبيت الله الحرام في عيون مسافر خلد رحلته طريق الساحل، وقهوة الجبل ومناجاة الروح والبوح وهدايا العمرة وحجة مع النبي محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

هناك يستوقفني غروب رمضان، وأصوات المؤذنين، وما زلنا نسمع صوت مؤذننا الكهل وإن رحل، ودعاء القانتين «اللهم اجعلنا من صوامه وقوامه»، شياطين تصفد وأبواب جنة تفتح، وباب يقال له الريان لا يدخله إلا الصائمون، وخطوات الصائمين في ثنايا طفولة حالمة ترسم هلال رمضان ونصر المسلمين تبوح تلك الطفولة بأسرارها في حلم أذان المغرب.

رمضان شهر التكافل والخير وتلمس حال المعوزين، والفقراء، والمساكين، والذين لا يسألون الناس إلحافا.

ومضة: يستطيل رمضان بطول المآذن في السماء، وتصحو المقابر في الدعاء، ويلعب الأطفال في الطرقات، وتزداد الفوانيس وهجا كلما أعدنا رمضان، كأنه دهشة الحب الأولى، أو كأنه رحيل أمي الأخير. رمضان ناموس البشرية وإن أفسده الرحيل والغياب والكراهية.