نبوءة القصيبي : الرمز والنموذج

شرفتني وزارة الثقافة في مملكة البحرين بالمشاركة ( مع كوكبة من ألمع الكتاب ) في كتاب عن العلامة الدكتور غازي القصيبي صدر في ديسمبر 2014

شرفتني وزارة الثقافة في مملكة البحرين بالمشاركة ( مع كوكبة من ألمع الكتاب ) في كتاب عن العلامة الدكتور غازي القصيبي صدر في ديسمبر 2014. ولم أجد عنوانا أنسب من هذا العنوان لمقالي الطويل نسبيا ' غازي القصيبي : اللآمصنف '. وقد شرفت بمعرفة المثقف الاستثنائي والدبلوماسي الفذ الدكتور' القصيبي ' قبل 23 عاما حين أهداني كتابه الجديد – آنذاك - ' أزمة الخليج .. محاولة للفهم ' الصادر عن دار الساقي بلندن عام 1992 وكتبت عنه مقالا بعد أيام قليلة من صدوره في صفحة الحوار القومي بجريدة الأهرام المصرية. لقد أعتبر القصيبي أن غزو صدام حسين للكويت أغسطس عام 1990 هو ' حدث ' بالمعني الفلسفي – التاريخي للكلمة، والحدث بهذا المعني الجديد ( ليس حدثا وحسب ) بل هو ' اللحظة ' التي يتصدع فيها الزمان وينفتح علي أحداث أخري قادمة لا يمكننا توقعها أو التنبؤ بها أو تعريفها. لقد أستطاعت حرب الخليج – كما رآها القصيبي - اجتياح المجال العربي العام واستحداث تاريخ مفصلي ليس في الشرق الأوسط وإنما في العالم قاطبة، إن ما حدث ' دشن ' تاريخا جديدا ولذلك هو أكثر من مجرد ' حدث مؤثر فريد وغير مسبوق '. ونستطيع اليوم أن نتحقق من صدق رؤيته – وإن شئت الدقة نبوءة - القصيبي لا سيما وأن العالم يحتفي هذه الأيام بالذكري المئوية للحرب العالمية الأولي 1914 – 1918 التي رسمت معالم الشرق الاوسط الجديد وفي القلب منه العالم العربي. لقد تنبأ القصيبي بنهاية ' الدولة القومية ' بعد أن غزت جيوش صدام حسين حدود دولة عربية أخري ذات سيادة هي دولة ' الكويت '، ما يعني نهاية الفكرة – الحلم : ' القومية العربية ' وبداية لحظة من أخطر لحظات التحدي السياسي والفكري، كما لامس الجدار المكهرب للفسيفساء الثقافية – الإجتماعية للشعوب العربية علي تباينها وتنوعها، وما تحمله طبقات نفسية عميقة تجاه ' الآخر ' و' المختلف '. على مستوى الجغرافيا يجري التقسيم الناعم اليوم على قدم وساق فيما يشبه (سايكس – بيكو) 1916 جديد أو شرق أوسط جديد، وعلى مستوى (الديموغرافيا) يتكفل الصراع الدموي الطائفي والعرقي برسم خرائط لـ(كانتونات) طائفية وعرقية لتحديد خطوط الطول والعرض لهذه الفسيفساء الثرية، ربما يجمعها – أو لا - إطار إقليمي (كونفدرالي) في المستقبل، لكن في النهاية يتم تصفية فكرة العالم العربي الواحد و' الوحدة العربية ' من المحيط إلي الخليج. السؤال : كيف تأتت رؤية ' التاريخ من المستقبل ' للقصيبي في التسعينيات من القرن الماضي؟ أحدث اصدارت كيسنجر هذا العام 2014 كتاب بعنوان ' النظام الدولي ' وهو أشبه بالمانيفستو الجديد للقرن الحادي والعشرين وهو يتضمن مراجعة نقدية وإعادة نظر للسياسة الغربية في الشرق الأوسط، من منظور ' سيسيو – نفسي – ثقافي '، ورصد لأهم الأخطاء المنطقية التي وقع فيها الغرب خاصة الولايات المتحدة في تعاملها مع المنطقة منذ نهاية الحرب الباردة عام 1989 وحتي اليوم. علي سبيل المثال لا الحصر، طرح كيسنجر أسئلة علي الولايات المتحدة غاية في الأهمية، منها : ' ما طبيعة قيم التقدم التي تسعى إليها؟ وكم يعتمد تطبيق هذه القيم على الظروف الخارجية؟ يري كيسنجر أن الإجابة علي هذه الأسئلة تتطلب التفكير على مستويين يبدوان متناقضين – يجب أن يقترن احتفاء أمريكا بالمبادئ العالمية .. بالاعتراف بالخصوصيات التاريخية والثقافية لدول العالم الأخرى التي تمتلك رؤية مغايرة لأمنها الخاص. ومع ذلك، وحتى نستوعب الدروس الصعبة من العقود الماضية، فقد ثبت أن الإحساس بالهوية لا يمكن أن يتبدد في التاريخ وعلى مر الأزمان. ولا ضمان لنجاح استراتيجية جيوسياسية شاملة للقرن الحادي والعشرين دون أخذ هذه الهويات والخصوصيات في الاعتبار أولا.' حين تنتهي من قراءة هذا الكتاب ينتابك التساؤل والحيرة .. لماذا لا يوجد لدينا ' كيسنجر عربي ' .. ومتي ؟ .. وكيف؟ .. وبمعني آخر لماذا لا يتكرر نموذج ' غازي القصيبي ' في عالمنا العربي؟ .. كيف نحول ' الصدفة ' التي جمعتنا بالقصيبي يوما – وربما بشكل استثنائي - إلي تيار متدفق للديلوماسية العربية الواعية ومدرسة في الفلسفة السياسية تفرز بإستمرار هذه النماذج التي نحتاج إليها الآن أكثر من أي وقت مضي، لا سيما وأن الشرق الأوسط الجديد الذي يتشكل حولنا وبنا الآن ليس هو ما قبله علي الإطلاق! أحد أخطاء السياسة العربية علي امتداد القرن العشرين : ' غياب الاستراتيجية الشاملة للتعامل مع القضايا العالمية الملحة ' و' استشراف ملامح المستقبل ومجابهة التحديات غير المعروفة ' ولعل أبرز هذه الاسباب يكمن في غياب الرؤية ( الثقافية – السياسية ) وعجز التخب الثقافية في نفس الوقت – لأسباب متنوعة - عن تقديم ما هو مفيد لصناع القرار، فما أحوجنا اليوم إلي ' غازي القصيبي ' .. الرمز والنموذج. أن أحد أهم الدروس التي يمكن أن نستفيد منها ( من القصيبي – الدبلوماسي ) هو وضع خطة علمية جادة للارتقاء بالمهنية والمعرفة والثقافة في اوساط اعضاء السلك الدبلوماسي العربي الذي يعاني – فيما أعلم - من نقص حاد في الكادر المهني والتخصصي الاحترافي. وهذه مسألة لا يمكن أن نتعلمها من الغرب وحده لأنها تتعلق بالخصوصية الثقافية – الجيوسياسية، وطبيعة مجتمعاتنا وقيمنا وهويتنا، ومفاهيمنا الخاصة للعديد من القضايا والإشكاليات، فضلا عن المعرفة الدقيقة بمصالحنا وأهدافنا التي يمكن أن تتعارض أو تتقاطع – أو تتصالح وتلتقي – مع مصالح وأهداف الآخرين. هذا من جهة، من جهة أخري علينا إفساح المجال للمثقفين – بالمعني الواسع والدقيق للكلمة - للمشاركة في الحياة السياسية، ففي الولايات المتحدة التي درس فيها ' غازي القصيبي ' وحصل علي الماجستير في العلاقات الدولية عام 1964 ، توجد أهم ' مراكز للتفكير ' – Think Tanks في العالم ( يبلغ عددها 1600 مركزا ). وقد تنبهت أمريكا منذ بداية الحرب الباردة إلي ضرورة الاستفادة من ثمار العقول المثقفة المتوهجة بالمعرفة والبحث والإبداع، في مجال السياسة والدبلوماسية. ومن ثم أصبح هناك ما يعرف ب ' الباب الدوار ' أي أن ينتقل الباحثون الكبار والمتميزون بإستمرار ما بين دوائر صناعة القرار ( الإدارة والكونجرس ) وبين مراكز الأبحاث والتفكير والجامعات طيلة الوقت. وهكذا أصبح الدبلوماسي الأمريكي يحوي في جوفه صناعة الأفكار، وأحدث النظريات المعرفية وتضاريس السياسة العالمية في نفس الوقت.، كما أصبح الباحث السياسي مستشارا سياسيا رفيعا وعالما قديرا، من هنري كيسنجر لزبغنيو بريجينسكي لصامويل هينتنجتون وفوكو ياما لجوزيف ناي، والقائمة تطول.