الرأي

دعونا نمجد الموت

الإلحاد فوهة فكرية تبث أشكالا مختلفة جميعها تقود إلى مكان واحد. ‏نعم هذه الحقيقة التي أدركها متأخرا أحد الكتاب، حين جعل من نفسه بوقا يشجع أفكارا تمجد القتل في الدول ‏المنكوبة بالتطرف المذهبي. ‏وفكر هذا الكاتب يتمحور حول المعتنق الذي يكبل ذهن الإنسان بتخاريف تقدس البقاء، وتمجد النفي. فعلى عتبات هاوية الإلحاد وجد نفسه فارغا مجرما حاول الوصول إلى قمة الشهرة على حساب نفسه، ووطنه، ودينه، وحتى أحلامه التي كان يكبح جماحها واقع حياته؛ حيث عاشها في بادية تحصر يومه بين مواعيد إطعام الماشية، وبين هوامش الحياة. ‏هو شاب أخطأ البحث عن موهبته؛ فصار مجرد جسد ينهكه بسجائر العزلة، وينهكه بالكتابة، يكتب، ويكتب، وفي المقابل ‏هو مجرد نقطة في أسفل هامش أحد الكتب الكبيرة التي جعلته يرى نفسه أصغر من مفاهيم الوجود، ومرافئ النهايات. ‏علق أيامه وأحلامه بتابوت الفكر الضائع، والعقل الذي شل من واقعه المرير، وأنهضه غيره، وجعله كائنا يهدم مجتمعات بأكملها، ويدخل خانة الأديان؛ ظنا منه أنها مجرد جدار يعوق ارتقاء العقل البشري على حساب وجوده في هذه الحياة. لقد اختزل الدنيا بفكرة تقوده نحو علو نفسه، وما هي إلا فكرة تهوي به للانحدار؛ فقد نسي إيمانه، ودينه الذي عاش عليه. ‏كان فقيرا بسيطا ذكيا، وفيلسوفا، ‏يعيش في حدود قريته بسلام، ‏لكنه خرج، واحتضنته المدينة، وشوارعها، مكث فيها حتى خرج منها، وهو أسير الفلاشات الإعلامية. ‏فهو الكاتب الذي سطع نجمه. ‏الكاتب الجاهل، والمعتوه، والمعتل، والخاوي على سفح من الجراءة، هو الملحد الخفي الأخطر، والأدهى، والمسكين. ‏وهو متلون حسب منعطفات السياسة، وحسب الحاجة، فتأتي عجوز الليل بلذعة عصبية تسحبه نحو مرافئ طفولته، وصباه، لقد تمزق جسر عودته، وهو يلهث خلف المال، والنساء الجميلات، يتمنى أن يعود تحت سماء وطنه، لكن العودة مستحيلة، وحياته غير مستقرة، فتاوى القتل تصدر بعد كل مقال مغترب في تلك القارة، لا توجد تذكرة تعود به إلى أرض قريته. ‏فقد ‏أصبح غنيا، ‏أصبح يسكن قصرا، ‏أصبح إعلاميا مشهورا، أصبح يركب سيارة فارهة، ‏أصبح يمتلك خدما وعبيدا. ‏أصبح وأصبح... لكن ما الفائدة من كل ذلك بعدما أضاع الأهم، أضاع دينه، وصار ملحدا! ‏لقد وقع على عضويات عدة في جمعيات تحتضن المائلين عن الفطرة، ‏وأصبح أسيرا لمقهى الملحدين بالمشرق، ‏لكن هناك بداخله شخص آخر. ‏إعلاميا صار، لكنه كائن مغترب على ضفاف الصحف، والمواقع المشفرة. ‏حيث عاش بلا وجود، بلا حياة، بلا دين. ‏يشعر دائما بغمة في صدره، يريد العودة، يريد ذلك الحي الفقير؛ حيث البساطة، والحياة المستقرة اللطيفة، ‏لكن لا عودة. ‏فأنت مجرد قلم يكتب، ولك مكافأة - فسحة بجبال الهملايا - قد تكون لا شيء، لكن عندهم ستكون كل شيء، سيمجدك من هم أمثالك من بعض بني يعرب؛ لأنهم لا يستطيعون مقاومة لذة الأرصدة الخضراء، ولا جزر المساج. ‏هم مجرد أجساد من صحراء قاحلة في فكرها، هم مجرد وصوليين، هم لا شيء، هل ستعود أيها الملحد هل تسرك أخبارك أنك الآن بلا وطن، بلا دين، بلا هوية؟ أنت لا تمتلك حتى الأسرة؛ فقد أضعت كل شيء، لقد كنت شابا ذكيا بسيطا يعيش أجمل حياته في تلك القرية. ‏أما الآن فما أنت إلا مجرد كائن حي يجول القارة الأوروبية، وعين تترقب الغد، وما سيؤول إليه. طعم المنفى غريب، وكذلك طعم الانتظار، والسراب، والموت، والشرق، والحلم على قارعة عودة التراجع المستحيل.