قيد النعمة شكرها

استخلف الله الإنسان في الأرض لإعمارها، لكن ذلك الاستخلاف في جوهره إنما هو ابتلاء واختبار، فكل تجليات الحياة هي أنواع من ذلك الابتلاء لحكمة أرادها الخالق جلت قدرته، فالفقر ابتلاء ولكن الغنى أيضا ابتلاء، والصحة ابتلاء والمرض ابتلاء، والجهل ابتلاء والعلم أيضا ابتلاء

استخلف الله الإنسان في الأرض لإعمارها، لكن ذلك الاستخلاف في جوهره إنما هو ابتلاء واختبار، فكل تجليات الحياة هي أنواع من ذلك الابتلاء لحكمة أرادها الخالق جلت قدرته، فالفقر ابتلاء ولكن الغنى أيضا ابتلاء، والصحة ابتلاء والمرض ابتلاء، والجهل ابتلاء والعلم أيضا ابتلاء. وهذه مشيئة الله في خلقه، إذ يمتحن من شاء بما شاء وكيفما شاء، إلا أن الله لم يبتل عباده إلا بعد أن بين لهم بالرسل وبالآيات الحق والباطل»ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة وإن الله لسميع عليم» . ومدار كل ذلك على العقل الذي هو مناط التكليف، وهو ما يميز الإنسان عن المخلوقات الأخرى. فحياتنا اليومية مليئة بأنواع الابتلاءات والاختبارات، إما جلالا أو جمالا، ولكن هل تأملنا ذلك جيدا؟يموت الناس وينعم الله علينا بفسحة من العمر، وتفتك الأمراض بالناس من مختلف الجنسيات والقارات، من الفقراء والأغنياء، ومن الصغار والكبار، ومن النساء والرجال، ومن الصفوة ومن الناس العاديين، وتنتشر الأمراض بكل أنواعها من السرطان والإيدز والسل وأمراض الكبد والفشل الكلوي. ويرقد الناس في المستشفيات أياما وأسابيع وشهورا وسنوات، بينما ينعم الله علينا بالصحة والعافية ونمارس حياتنا اليومية بشكل طبيعي. أنعم الله علينا بجوده وكرمه ولطفه بالصحة والعافية، ولا ننتبه إلى ما في أجسادنا من الأجهزة المعقدة التي تعمل على مدار الساعة بانتظام ودقة، تعمل ليلا ونهارا لراحة أجسامنا دون أن نلقي لذلك بالا. ويموت الناس في جميع أنحاء الدنيا من الجوع، أو يعيشون عيشة ضنكا، إذ تقدر تقارير المنظمات الدولية أن أكثر من خمس سكان العالم يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، أي أنهم لا يستطيعون توفير الحد الأدنى من حاجتهم من الغذاء أي الضروري، أما التكميلي فلا محل له. ويعيش الناس الفوضى وفقدان الأمن في كثير من بلدان منطقتنا وفي غيرها. يخرج الإنسان هناك وهو يتوقع أن يسقط عليه صاروخ أو تصيبه قذيفة مدفع أو يتحول إلى أشلاء في انفجار سيارة مفخخة مثلا، كما لا يعرف هل سيدمر بيته على من فيه بعد خروجه أو أثناء وجوده. ونحن في أمن وعافية من ذلك كله. فهناك مثلا من فقد كل مظاهر الأمن والحرية، بل والحياة منذ فترات طويلة، مثل أهلنا في فلسطين الذين يقبع بعض أطفالهم ونسائهم ورجالهم وشبابهم في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ سنوات طويلة، فمنهم من يعيش في زنزانات لا يميز فيها بين ليل ونهار، ويموت والداه دون أن يراهما ويكبر أطفاله وهو لم يلتق بهم ولو مرة واحدة، وكثير منهم أدركه الموت في الأسر. ولا ننتبه لما نحن فيه من نعم الصحة والعافية وأمن ورغد عيش. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا». وقال تعالى «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها». بل إن بعضنا ربما استخدم تلك النعم العظيمة التي حرم منها كثير من خلق الله في المعاصي، ونسينا ونحن نرفل في هذه النعم قول النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَا فَعَلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ». وشكر النعم عرفه الحسن البصري بأنه عدم معصية الله بنعمه، بل إن عدم استثمارها يعد من الغبن، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ». وعن مكحول رحمه الله أنه سئل عن قوله تعالى «ثم لتسألن يومئذ عن النعيم» قال: بارد الشراب وظل المساكن، وشبع البطون، واعتدال الخلق، ولذة النوم. فكيف إذا أضفنا لذلك مباهج الحياة اليوم وما فيها من مظاهر الترف الكثيرة..؟قال أبو الليث السمرقندي: تمام الشكر في ثلاثة أشياء، أولها إذا أعطاك الله شيئا فتنظر من الذي أعطاك فتحمده عليه. والثاني أن ترضى بما أعطاك الله. والثالث ما دام منفعته معك وقوته في جسدك لا تعصه. ومن أفضل أنواع الشكر الجمع بين أداء حق خالق العباد وبين أداء حقوق العباد. قال أحد الحكماء: إذا أصبح الرجل ينبغي أن ينوي أربعة أشياء، أولهما أداء ما فرض الله عليه. والثاني اجتناب ما نهى الله عنه. والثالث إنصاف من كان بينهم وبينه معاملة. والرابع إصلاح ما بينه وبين خصمائه. فإذا أصبح على هذه النية أرجو أن يكون من الصالحين المفلحين. ومن أفضل أنواع الشكر الكف عن الإسراف والتبذير، وتذكر الذين يحتاجون، والسعي لمساعدتهم قدر الإمكان. فلنكثر من الدعاء بأن يديم علينا نعمه ويعرفها لنا بدوامها لا بزوالها، ويغنينا بنيل أجر الشكر عن نيل أجر الصبر. يقول أحد الصالحين:وأغننا عن نيل أجر الصبر على البلاء بنيل أجر الشكروأنزل الفضل مكان العدل فأنت ذو العدل عظيم الفضل. ونكرر مع أحد الصالحين: اللهم إن كنت بلغت أحد عبادك الصالحين مقاما ببلاء فبلغنيه بعافية. لك الحمد مولانا وحق لك الحمد يروح كما النعمى ويغدو كما تغدو لك الحمد لا كفران لا الرب مانع ولا العبد مطرود ولا الباب منسد.