من يقدم خدماته للمجتمع تبرعا وتطوعا، ومن يدخل السرور والسعادة على الآخرين، ومن يعتني بالمرضى ويحسن إلى الضعفاء والمساكين هم أبرز من عناهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية بقوله (خير الناس أنفعهم للناس)، وبقوله (وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم)، كيف بمن جعل مشروعه في الحياة استحداث أنموذج متميز للعطاء! وذلك للإسهام ببناء قطاع صحي خيري بعمل مؤسسي في بلاد الحرمين يمكن أن يستنسخ ليكون سنة حسنة إلى يوم القيامة تحتذى، وهكذا تكون أعمال الرموز والأعلام والنماذج الناجحة في المجتمعات الإسلامية عبر تاريخها الخيري الطويل.

وأحسب أن صديقنا العزيز الأستاذ الدكتور عدنان البار -رحمه الله- المحمود بأخلاقه، والمحبوب بأفعاله، والحكيم بإداراته وعلاقاته، صاحب مبادرات الخير وابتكارات صور العطاء المتنوعة، ممن يصدق في قيادته وأمثاله قول المصطفى صلى الله عليه وسلم (لا تكاد تجد فيها راحلة) وذلك بقليل تكرارها، ولهذا وجب التذكير بأبرز أعماله في ميادين عطاء الخير، ثم إن مجتمعات العطاء والإحسان هي المناخ الملائم في شحذ الهمم بالكتابة عن القدوات، لا سيما في أزمنة العوائق والتحديات لقيم العطاء وقيم التطوع والصبر والابتلاء، حيث يتأكد وجوب التجرد من شح المال والنفوس. وكما أن الإسلام جعل من العطاء والإحسان سننا وأركانا وعبادات لله فإن المجتمعات العالمية المعاصرة جعلت مؤخرا من الإحسان philanthropy ومن التطوع volunteer مقياسا ومعيارا حضاريا للدول في أوليات التقدم المدني بدلا من المعايير المادية الاقتصادية عن (دخل الفرد)!

وقد أجاد البروفيسور عدنان -رحمه الله- مع مجموعة من زملائه الأطباء ومنهم السابق له في الرحيل الدكتور علي الفقيه -رحمه الله-، حيث أنجحوا أنموذجا عمليا مثاليا في تقديم العلاج والدواء للمحتاجين بإنشاء وتأسيس (جمعية زمزم للخدمات الصحية التطوعية)، فالقطاع الصحي الخيري يسد الثغرات بمواساة ذوي الاحتياجات، كما أنه خير مساند للخدمات الصحية الحكومية، وما أحوج المجتمع إلى هذا التجديد في مثل هذه المبادرات، وما أجملها حينما يكون حضور الدعم الحكومي وتفاعل الشراكة الأهلية على حد سواء.

عرفت أخي الدكتور عدنان منذ حوالي ثلاثة عقود وتعاملت معه في كثير من مجالات القطاع الخيري فرأيت الأخلاق المثلى، والتفاؤل مع العمل، والتسامح مع الصفاء النفسي، وصلاح الظاهر الذي يعكس الباطن، وحب الخير للغير كما يحبه لنفسه وأكثر، ولكثرة عضوياته في الجمعيات واللجان كان ناجحا بشخصيته التوافقية مع كل شريك في تحقيق الهدف.

لم يكن عطاء هذا القائد مقتصرا على المبادرة بإنشاء وتطوير (جمعية زمزم) التي حصدت كثيرا من جوائز التميز وحظيت بشهادات الداخل والخارج لها بأنها صرح طبي يستحق الاستنساخ والتكرار، بل كان عطاء وضوح الرؤية وجودة الإدارة المؤسسية وتجاوز التحديات في منح الخدمات، يعززها روح الأخوة الإيمانية ودفء العلاقة مع المرضى المحتاجين منه ومن فريقه الطبي، وقد كان بهذا صاحب مشروع ورسالة تبقي الأثر والأجر بعد الممات، ومن الأثر العاجل تقدير وزارة الصحة بمنحه بعد مماته جائزة معالي وزير الصحة في التطوع الصحي، وفي هذا استنبات للقدوات.

ولم يكن هذا الإسهام المجتمعي منه فحسب، بل إن عدنان طبيب الأسرة والمجتمع كانت له إسهامات أخرى في (وقف الملك عبدالعزيز للعين العزيزية) عند تأسيسه ووضع نظامه الأساسي، حيث لم يتردد عند طلبه في المشاركة بهذا الصرح الخيري عضوا في أبرز لجنة من لجانه وهي خدمات إهداء المياه وتوزيعها المخرج الرئيس للوقف، وقد كان في هذه المشاركة صاحب رؤية فاعلة من خلال إثرائه ومبادراته الإبداعية حينما كنا جميعا في هذا الميدان الوقفي الخيري على مدى ثمان سنوات تقريبا، وقد كان في إحدى مقابلاتنا الخاصة مع الأمير عبدالمجيد بن عبدالعزيز -رحمه الله- الذي كان يرأس مجلس نظارة هذا الوقف، وقد أجاد الدكتور عدنان دوره في عرض قضية كبيرة تهم بعض مواطني جدة وتشغل شيئا من الرأي العام فيها، كما أنها تهم كيان الوقف في حسمها، وهي معالجة الملفات المعلقة على مدى أكثر من أربعين عاما أو خمسين لما يزيد عن (11000) ملف لمواطنين يحتاجون إلى صكوك لبيوتهم التي كانوا قد بنوها على أرض عين العزيزية لتكون لها الأولية على خدمة المياه، ثم كيف تم تسريع هذا الملف وحسمه بحمد الله من الجهات العليا.

ولم تكن جهوده في (جمعية زمزم) وشراكته كذلك في العطاء بوقف (عين العزيزية) هي النماذج الوحيدة، بل كانت له شراكة مثلى في (المركز الدولي للأبحاث والدراسات 'مداد') حينما كان عضوا فاعلا في مجلس إدارته الذي كان يرأسه معالي الشيخ صالح الحصين -رحمه الله- على مدى ثمانية أعوام، ليكون الدكتور عدنان بعد وفاة الشيخ الحصين رئيسا لمجلس إدارته حتى وفاته إيمانا منه بأهمية هذا المركز، حيث يعد من أوائل مراكز الدراسات المعنية بأبحاث العمل الاجتماعي وتأصيله، حيث تميزه بالأبحاث والدراسات والمجلات المتخصصة على مستوى المملكة العربية السعودية، بل على مستوى العالم العربي، وقد انتقلت مسؤولية هذا المركز إليه وتحمل هذه المسؤولية وقام بها مدركا أهمية التأصيل العلمي لهذا القطاع البكر، ولإثرائه بالعلم والمعرفة، ولا سيما أنه عضو في جمعيات ولجان متعددة من أبرزها عضويته في المجلس المركزي والفرعي للجمعيات الأهلية بمنطقة مكة المكرمة.

وما أحوج المكتبة المعرفية إلى كتب الدراسات والأبحاث المتخصصة لتسهم في تأسيس قطاع خيري مليء وغني بالموارد لميلاد (قطاع غير ربحي) يقوم على رأسمال كبير، مستفيدا من الأوقاف العامة وغيرها من الموارد الكبرى كما هو حال المجتمعات الأخرى التي وضعت لهذا القطاع استحقاق هذا المسمى (القطاع غير الربحي)، حيث له شركاته ومؤسساته ومستشفياته وجامعاته العملاقة غير الربحية، والأمل في الله كبير حينما يكون العمل مصاحبا للتفاؤل كما هي رؤية كثير من العاملين في هذا القطاع بأنه قطاع واعد وقادم بقوة رغم العوائق، وقد كان الدكتور عدنان يصف مستقبل هذا القطاع بتفاؤل كبير يستحق الإعجاب والتقدير.

لم تكن العطاءات الإيجابية للرجل الناجح في ميادين العطاء الخيري المباشر فحسب، فقد تنقل في وظائف حكومية كان فيها كذلك أنموذجا حسنا في النزاهة، وإنجاح أعماله وإدارته، واستثمار علاقاته الواسعة حينما كان أستاذا في كلية الطب في جامعة الملك فيصل ثم عميدا لها، وأستاذا في الطب بجامعة الملك عبدالعزيز، ومديرا سابقا للشؤون الصحية بمنطقة مكة المكرمة، ثم عضوا في مجلس الشورى.

لقد كان البروفيسور عدنان البار له من اسمه نصيب في بره وعطائه لدينه ولمجتمعه ولوالديه وأولاده، ولعل من الوفاء والبر بهذه القامة المجتمعية التسريع بإنجاز كتاب معني بالترجمة عنه ومآثره، لاستفادة الأجيال واستلهام تجارب الماضي للحاضر والمستقبل، وإعادة ذكرياته بالترحم عليه، ولا بد من المبادرة الجادة في تجاوز تحديات سرعة الزمن وعوائق المال ليكون هذا الأنموذج الإداري من الجيل الذي (يحيا بعد أن يموت) وهو كذلك في سيرته الطويلة وفي عمله الوظيفي وفي علاقاته وأخلاقياته، ومبادراته ورؤاه الإبداعية، وتحمله للمسؤوليات ولهموم مجتمعه الصغير والكبير.

وقد نعاه كبار المسؤولين من أمثال رئيس مجلس الشورى وكثير من الأعضاء، ووزير الصحة، وأمير منطقة مكة المكرمة ومحافظ جدة، وجمع غفير من رجال الفكر والثقافة والإعلام، ومن زملائه ومحبيه وأقربائه وذويه، ونعاه من يعرفه ومن لا يعرفه بمئات التغريدات وعشرات المقالات رحمه الله رحمة واسعة.

وهكذا فرواد العمل الخيري حقهم على مجتمعهم كبير؛ حيث الأيدي الرحيمة والقلوب المرهفة، وتبقى أعمال الخير والتطوع والإحسان هي الشاهدة والشاخصة للاقتداء والاهتداء.