الرأي

السباق على انتهاك الآخرين

أروى الزهراني
كأشخاص يتفاعلون في العالم الشبكي الافتراضي طيلة الوقت، لا يحتاج الأمر لعين ناقدة أو لدراسة في تخصص معين حتى يعرف كل من يتفاعل في هذا العالم أن الأمور خرجت عن إطار الذوق والتأدب والتشريعات المعروفة بخصوص المادة المرئية!

من وقت طويل والإعلام الجديد بعوالمه الشاسعة وآفاقه التي لا يضبطها تشريع موحد، أصبح بيئة تختلط فيها المفاسد والمنافع بشكل تكاد تطفح فيها الأضرار على المنفعة؛ فمفهوم الإعلام تعدى الأصل والقاعدة في عصر الإعلام الجديد وأدواته، اليوم لا توجد غرفة تنخل الأخبار ليخرج اللائق فقط ويندثر ما عداه، لا توجد محطة تتنافس مع أخرى في عنصر المصداقية ومواثيق المهنة وقواعد الأداء، لا يوجد فرق بين الخبر والشائعة ولا توجد ضمانات، فضاء واسع، فضفاضة فيه القواعد، يحتكم لمسؤولية الفرد التي تذوب كثيرا في سبيل السباق على الترند والصيت الفوري إثر النبش في الفضائح وخصوصيات الناس.

في هذه الأيام تعد أوجاع الآخرين مادة ليست للنقاش الجاد المنصف، بل لإشعال فتيل الشهرة المعيبة على حساب الأبرياء، في هذا الوقت تندثر المروءة وتتصعد السباقات في سبيل اقتحام خصوصيات الغير ولو بالتدليس والفبركة! ومع أن هناك بعض القوانين الرادعة إلا أن الأصل في بعض أولئك الخسة، لو لم يردعهم قانون لما انفكوا عن تصدير كل معيب في حق الآخرين ودون وجه حق!

نشهد وبشدة وكل لحظة هذا التلذذ الذميم والتفاعل الذي يتبعه في شؤون الآخرين، وكلماتهم، ووجهات النظر، وخصوصياتهم، للحد الذي يصل إلى التطفل في أدق تفاصيلهم وتعميمها بين الناس مع الإصرار على التشويه والضرر! كل هذا الفضاء بكل رحابته خانق عندما يستقصد به خصوصية شخص وأوجاعه وحياته الخاصة، كل هذه الحريات في التعبير مسمومة ما لم تكن في أيدي الشرفاء بحق، لا يوجد رادع لمثل هذه التصرفات التي اتخذت من هذه المساحات وسائل هجوم دون وجه حق؛ فما دامت التشريعات في هذه العوالم فضفاضة بل شبه غائبة لن يشعر بالأمان كل من يسكن هذا العالم بصفته عرضة للاقتحام بكل أشكاله! إننا كمتفاعلين في هذا الكيان الافتراضي نلعب دورا كبيرا في التصعيد من هذه الانتهاكات، عندما نتفاعل معها دون اعتراض، تمر مرورا عابرا، ما دام المضمون لا يمسنا شخصيا لا نعترض! لا نحترق بجدية لحرقة الآخر الذي هو عنوان الحدث، وخصوصيته فضيحة الموسم!

إننا وبشكل غير متعمد أسهمنا في تلوث الأمكنة بمثل هذه الأضرار، عندما نسمح بمرورها فيما بيننا دون أن نطفئ فتيلها أو ندهسه فور وصوله بالتكتم عنه! إنهم يصنعون الفضيحة، يلونون خصوصية الآخر حتى تكتسب شكلا يحبه الناس ويسلي غرائزهم، يعبثون بالعقول المسطحة لتحظى بالمتعة والتشويق الذي يغيب عن حيواتهم والمقابل آلاف النقرات تصنع الشهرة مقابل الإشهار والترويج لكذبة!

ولنا في هذه المساحات شواهد، كل يوم يتصعد في المنصات «ترند» يغلب على مضامينه الفضائح والسخف والدجل والافتراء الصريح الذي لا تقبله نفس شريفة ولا منطق!

ربما يجدر بنا أن نفكر جديا فيما يفرضه علينا هذا الإعلام الجديد بكل تفاعلاته، وفيما ينبغي أن يحدث بينما يحدث النقيض عنه تماما، ربما ينبغي ألا نضطر للانخراط في التفاعل مع هذا الفضاء بهذا الشكل بينما يمكن تسخيره كأي أداة تتطوع لخدمة غايات صاحبها ليس أكثر ولا أقل!

في حين أننا لم نعد قادرين على استبدال الوسائل ولا أن ننخل الفضاء الافتراضي مع كل انفتاحه على بعضه في نمط القرية الواحدة: لم نزل نملك أنفسنا كفاعلين في المكان، يستثمر منهم ويستثمرون منه، أهل لرفض كل معيب وتعميم الصالح النافع والامتناع بكل أشكاله عما يتيحه العالم الافتراضي من مخالفات وأضرار ومفاسد لا يعاقب عليها القانون بل لا تقبلها النفس السوية ولا ترضي الله.

إن المتفاعل في هذا العالم الشبكي بكل منصاته يفهم تماما أن التشريعات غائبة والمهنية تطفو في البعد، ليس بالضرورة أن يتخصص أحد في الإعلام حتى يدرك أن حرية التعبير والإعلام في كل مكان وفي أي حال معقودة بالضوابط والأخلاقيات، حتى فيما بيننا البين في تفاعلاتنا لا توجد حرية لا تضبطها قواعد ذوقية وأخلاقية!

لذا كان الأمر في هذه العوالم الافتراضية يعود لطبيعة الشخص المدركة بكل الواجبات والأخلاقيات واختارت المسلك الذي تلغي فيه خصوصية الآخر مقابل نيل مكاسب شخصية، متجاهلة تماما أن ذلك يتنافى مع أخلاقيات الإعلام وأخلاقيات التفاعل وأخلاقيات الإنسان وجميع الأديان في الأصل!

إن المعايير المهنية والأخلاقية لم تعد موجودة غالبا في الإعلام البديل والاتصال الافتراضي، ولكن لم تزل توجد المسؤولية الاجتماعية كرادع كاف عن استمرارية السلوكيات الضارة بين المتفاعلين في المكان؛ فإن كان ثمة مصدر فاسد فثمة متلق شريف، ولا يتطلب الأمر أكثر من التجاهل الذي يتنافى مع كل متطلبات المكان الذي يصدر الضرر، وهذه الانتهاكات تحديدا!

لقد أفسدنا الأمر بنقرة إعجاب وإعادة تصدير المشهد ودون قصد أحيانا؛ فمن الإنصاف ألا نطلق العنان لحماسة نقراتنا مع كل صورة ومشهد يهيمن على المكان، من الحسنى أن نقيد نقراتنا في زمن انفلات التعابير والتفاعلات فلا تنقر إلا كل ثمين مشرف، وتترفع عن الإسفاف والأذى.

zahrani_arwa1@