الرأي

من أصحاب كيف أو من أصدقاء لماذا؟!

عبدالحليم البراك
أنت يا صاحبي، هل أنت من أصدقاء السؤال كيف؟ أم أنت من أصحاب التساؤل لماذا؟ هل أنت ممن يبحثون عن: (كيف حدث هذا؟) أم أنت مما يسألون عن: (لماذا يحدث هذا؟)، وإن رتبنا هذه الأسئلة ورتبنا معها الزمن، لوجدت أن العلماء سابقا أكثر عمقا من العلماء الحاليين، إذ أنهم كانوا مشغولين بالسؤال الفخم العميق الكبير (لماذا؟) السؤال / التساؤل الكبير الذي لا يتوقف عند كيف حدث الشيء، بل يذهب أعمق من هذا إلى لماذا يحدث هذا، أما الآن، وبكل أسف، فإن الناس تركز على السؤال كيف، وتضعه في مصاف الأهمية القصوى لسبب بسيط وهو: نتائجه على تحسين حياتهم الآنية، بينما يهملون السؤال الذي يحسن عقولهم وغاياتها، ويحسن مستقبلهم، ويجيب على ما تهتف به قلوبهم الروحية، وكأنهم يقولون بأفعالهم: لا غاية لنا نهتم بها، فلا نامت أعين (الغايات).

هذا السؤال أو التساؤل الشكي الصعب؛ هو الذي يبحث عن الغايات والأهداف، أما كيف فإنها ينحصر بإجابتين اثنتين لا ثالث لها (ربما لهما ثالث) أحدهما (حدث بهذه الطريقة) أو الإجابة الأخرى: (لا ندري كيف حدث، المهم أنه حدث وكفى)، أما الإجابة الثالثة فإنها الأكثر منطقية الأقل شهرة وهي دعنا نسأل سؤالا آخر، أما سؤال لماذا، فإنه يحتمل عشرات الإجابات، بل إن كل إجابة هي بحدث ذاتها حكاية مستقلة بذاتها؛ لأن كل إجابة جديد معها سؤال آخر يرافقها؛ أيضا: لماذا أجبت بهذا الجواب، فيبدأ العقل البشري يشحذ نفسه بعشرات الأسئلة، حتى أنه يكاد لا يتوقف عن الأسئلة.

وحتى نكون أكثر مبالغة (بعض المبالغات جميلة للغاية) وشغفا بالسؤال لماذا؛ إن عظمة هذا السؤال لا تنتج من الإجابة عليه، بل من عدم ذلك، بمعنى كلما قلت الإجابة القطعية على السؤال: لماذا، كلما فتح آفاقا أوسع، أما إذا انعدمت الإجابة فهذا أفضل؛ لأن انعدام الإجابة يخلق أسئلة أخرى لا حصر لها، فيبدأ العقل البشري بالنمو، سؤال وإجابة سؤال وإجابة حتى يخترق حجب ذاته المغلقة إلى أفاق أوسع!

ولذلك عندما سئل أحد أعظم الفلاسفة عن الفرق بين العلم والفلسفة، أجاب إجابة بسيطة عميقة خطيرة للغاية «العلم يتحدث عما نعرفه، بينما الفلسفة تتحدث عما لا نعرفه» وهذه الإجابة الأكثر وضوحا وبراءة هي الأكثر عمقا؛ لأن الذي نعرفه هو كيف يحدث الشيء فنملك معادلة أو معمل للإجابة القطعية عليه، أما ما لا نعرفه يقينا فإنه يحدث سؤالا شرخا في العقل البشري، فهذا الشرخ هو: الدهشة والشغف، والاستحثاث غير المتوقف، حتى تأتي الإجابة عليه، فمتى جاءت الإجابة العلمية القاطعة عليه حتى يموت السؤال والتساؤل والشغف والدهشة، ويصبح ركاما بعد أن كان شغفا بمجرد أن نملك إجابة قطعية عليه!

وإليكم مثلا بسيطا، عن كروية الأرض أو مركزيتها، مات في اعتقاده والتفكير فيه عدد من العلماء؛ لأنه كان سؤالا فلسفيا قبل أن يدخل حيز العلمية مقصيا الفلسفة من الموضوع، أما في تلك اللحظة التي دخل نطاق العلمية وشاهدوا الأرض من بعد، فالأمر حسم وانتهت الدهشة وذهب الشغف واستقرت الأمور، فالكبار مشغولون دائما بـ(لماذا)، والصغار مشغولين بـ(كيف)، وهذا لا يلغي أهمية الكيفية لكنه يركز على السؤال الغائي الأكثر خطورة في عقل الإنسان لماذا نسأل عن لماذا أكثر من سؤالنا عن كيف حدث هذا؟!

Halemalbaarrak@