الرأي

ثورة الزنج الثانية

مرزوق بن تنباك
تعج الأخبار في العالم هذه الأيام بثورة الزنج الجديدة في أمريكا وفي أوروبا التي تواجه تحديا يقوم به مواطنوها السود الذين مروا بمأساة إنسانية لم يحدث مثلها في التاريخ، حين كانت الحاجة إلى أيدي السود القوية في العمل والضعيفة في الدفاع عن حريتها وكرامتها ووجودها، فانتهكتها قوى الشر واستعبدتها قوى الطغيان، منذ القرن السابع عشر الميلادي.

كانت حاجة إعمار العالم الجديد قوية، وكان المستعمرون الأوائل لا يكفي عددهم لما يحتاجون من الأيدي العاملة، فتوجه عباد المال إلى استعباد البشر وهداهم شيطانهم إلى أفريقيا السوداء.

فأسسوا مراكز وأسواقا كبيرة في أوروبا وأفريقيا، وقطارا من البواخر عابرة القارات إلى العالم الجديد تحمل من أوقعه سوء حظه في أيدي تجار الاستعباد، واستمرت التجارة البشرية أكثر من مئة عام، نقل فيها مئات الآلاف من السود الذين يقضي أكثرهم حياته في مراكز الاعتقال ويموت آخرون في البحر حيث تلقى جثثهم، ومن بقي منهم حيا ووصل إلى أمريكا تلقته قلوب لا ترحم.

وقد عرضت بعض الأفلام كيف كان يعذب العبيد الذين يمتنعون عن العمل أو لا يستطيعونه، ومما يعذبون به ربطهم في الشجر وحرق الشجر ومن ربط في أغصانه بالنار، لقي السود من الظلم وسوء المعاملة ما تقشعر منه الأبدان، حتى تحرك الضمير الإنساني وجاءت الثورة الصناعية ونادت بعض القيادات بتحرير العبيد، ومع هذه البارقة من الأمل كان التمييز العنصري ضد السود عبيدا وغير عبيد، فقسمت المدن والمرافق والمدارس والمطاعم ووسائل النقل، فللبيض مرافقهم العالية الجودة وللسود ما هو دون ذلك من الخدمات.

ولا تظنوا ذلك الفصل العنصري بعيدا فقبل أقل من 50 عاما كان لا يسمح للسود باستعمال ما هو مخصص للبيض في أكثر الولايات، ويذكر الجنرال كولن باول رئيس أركان الجيش الأمريكي في حرب الخليج ووزير الخارجية الأمريكية بعد ذلك في مذكراته أنه عندما كان ملازما في الجيش كان ممنوعا من المطاعم المخصصة للبيض، وإذا أراد وجبة طعام من مطعم للبيض، يطلب من زميله الأبيض أن يشتري له وجبة الطعام من مطاعم البيض، إذا لم يجدوا مطعما للسود قريبا، وكان ذلك القانون ساريا حتى عام 1969م أي منذ نحو 50 سنة مضت، وكانت السيدة روزا باركس التي توفيت عام 2005 أول من اعترض على قانون جيم كرو العنصري في النقل وغيره.

اليوم ينتفض السود بثورة لكرامتهم ولتاريخهم في أمريكا وينتفضون حتى على تاريخ العبودية، ورموزها وسماسرتها، ويلقون بتماثيل تلك الرموز في البحر مثلما شاهدنا في مدينة برستون البريطانية، حيث حطم المتظاهرون تمثال إدوارد كولستون أحد تجار العبيد ورموه في البحر، والذي يقال إنه وحده شحن لأمريكا أكثر من مئة ألف مستعبد من القارة الأفريقية، وبعد أن تضخمت ثروته من عرق البشر ودمائهم توجه للتبرعات لبناء المدارس والكنائس كما يفعل أمثاله الذين يسرقون ويحتالون للكسب الحرام ثم يتصدقون ويسمون محسنين، وقد أصدر البنك المركزي البريطاني والكنيسة يوم الخميس الماضي اعتذارا عن دورهما في تلك الحقبة السوداء من تاريخهم.

ولم تكن مظلمة السود جديدة على العالم، فقد كان في تاريخ الدولة العباسية ثورة مماثلة مع اختلاف الظروف، تسمى ثورة الزنج في البصرة، ولكن الاختلاف أن المسلمين لم يجلبوهم بالقوة من ديارهم وإنما جاؤوا وتكاثروا ووحد اللون بين من كان من العبيد وهم قليل ومن الزنوج وهم ليسوا عبيدا فسموا الزنج، وعاشوا في مستنقعات العراق عيشة ضنك وكفاف، فالتمس المغامرون السياسيون أحوال الزنج المتردية وأشعلوا فيهم رغبة الخروج على أوضاعهم القاسية، فقاموا بما يعرف في تاريخ المسلمين بثورة الزنج وانتصروا في كثير من المعارك، وقادهم في ثورتهم التي بدأت عام 255 هجرية كما يقول المؤرخون عدد من الطامحين من غير الزنوج، واستمرت 20 عاما وأسسوا إمارة في المختارة (مدينة جنوب البصرة).

وقد كلفت ثورة الزنج الدولة العباسية 20 عاما من الحروب الداخلية، وأضعفت إمكاناتها الاقتصادية، وجرتها إلى كثير من النتائج الوخيمة.

والسؤال: كيف تكون نتائج ثورة الزنج الثانية على مستقبل أمريكا؟ وهل تنجح كما نجحت ثورة الزنج الأولى أم تفشل؟ ذلك ما سوف تنتظره الأجيال وما تأتي به الأيام.

Mtenback@