الرأي

الحج وإخوان الشيطان

عبدالخالق المحمد
إن من أشر الخلق أهل المجهولات المقرمطون في السمعيات المسفسطون في العقليات المنكرون للبديهيات، الجاحدون للعلوم الضروريات انتصارا للحزبيات والجماعات على حساب الحق المبين الذي جاء من رب العالمين وبلغه الصادق الأمين. فهم يأخذون ما يعجبهم وينتصر لرأيهم السياسي مثلا ويتركون ما لا يوافق أهواءهم وفي الأغلب هو الأصح والأرجح، وأولئك هم المبعضون والمحرفون للكلم عن مواضعه.

وسوف ترون نشاطهم هذه الأيام في تعاطيهم لقضية الحج وما ستتخذه مملكتنا الحبيبة من إجراءات بعد الاجتماع مع كبار العلماء والأطباء والمختصين والمختصات في كل المجالات، بل أنا متأكد كما أنك متأكد من قراءة هذه الأحرف أنهم قد أعدوا لجميع الاحتمالات التي سوف تتخذ رأيا مناكفا معاديا لمعارضة أي قرارات سوف تتخذ، بل لن يتورعوا عن التكفير في كل الاحتمالات، فمثلا إن لم يتيسر الحج لمن هم في الخارج قالوا: هو صد عن سبيل الله والمسجد الحرام لمن أراده وهذا كفر، وإن تيسر لهم الحج وعادوا لبلدانهم وحملوا هذا الوباء لأهلهم وتفشى فيهم قالوا: لقد مكنتموهم من الحج وأنتم تعلمون سرعة انتشار هذا الوباء وزيادة خطره في التجمعات، وأردتم بذلك هلاك كثير من المسلمين وهذا كفر، وعلى هذا فلتقس عزيزي القارئ، لن أطيل كثيرا في التفاصيل والاحتمالات، فأغبياؤهم قد بدؤوا من الآن، وفوت من بقي فيه ذرة حياء منهم على نفسه فرصة المناكفة فيما لو وافق القرار مراده، وأما من لا حياء له فلن يجد حرجا في مناقضة نفسه.

وأما الأكثر ذكاء فسيتمهل حتى صدور شيء رسمي ليبدأ عمله المعد مسبقا لكل الاحتمالات. ولو عدنا للآية «إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام...» فسيقولون: منعكم للحجاج صد عن سبيل الله، مع علمهم أن من الأمور التي تتحقق بها الاستطاعة الأمان على النفس من الأوبئة، قلنا لهم هذا ليس بمنع، بل هو صيانة للحاج نفسه أولا وبقية إخوانه الحجاج وصيانة لأهلهم إذا رجعوا إليهم قافلين، بل هو طاعة لله وجعلُ بيته الحرام أمنا للناس وليس مكانا لنشر الوباء بينهم، ثم إنك إذا نظرت للآية التي تليها رأيت قول الله لإبراهيم بعد نهيه عن الشرك «وطهر بيتي للطائفين والقائمين...»، فإذا رأى أهل الاختصاص أن من تطهيره الحسي عدم دخول أحد إليه من أرض موبوءة كان لهم ذلك، وقد جعل الله التطهير للبيت قبل الأذان في الناس بالحج كما في الآية التي تليها، وهم لن يسلموا لك بذلك. وهب أن الحج تيسر لمن هم بالخارج فأصاب الوباء منهم وتفشى فيهم، إذن لقالوا «ومن يرد فيه بإلحاد نذقه من عذاب أليم» وأنتم مكنتم من نشر الوباء فيه... إلخ وهذا مثال من كتاب الله. فقط سيقرمطون فيه ليمرروا أهدافهم السياسية في عداء أرض الحرمين.

وما بالك بالأحاديث، سأكتفي بواحد منها هنا، والذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعون - وهو أحد الأوبئة «إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه»، وفي طاعون عمواس رجح عمر رضي الله عنه عدم الدخول على الأرض الموبوءة قبل علمه به فحمد الله على موافقته للحق حين علمه.

وأما القواعد الفقهية فهم يعلمون (لا ضرر ولا ضرار) وهي قاعدة توجب منع الضرر مطلقا! ومما تشمله دفعه قبل وقوعه - أي الضرر - ومستقر عندهم أن الوضوء إذا استلزم ضررا يكون منفيا والحج إذا استلزم ضررا لا يجب. ويعلمون ما يتفرع عليها من قواعد كتحمل أخف الضررين لدفع أشدهما، وتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، ويعلمون مفاد كل منها، وأن العلماء من خلالها يستطيعون مع أصحاب الاختصاص من الأطباء الذين لهم تحقيق مناط الضرر؛ الإفتاء في ذلك.

أما اجتزاؤكم لفتوى من سياق زمني معين تختلف الظروف المحيطة بالمفتين فيه وإمكاناتهم العلمية المُقدِرة لانتشار الداء، فما هو إلا مكر منكم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فلو كان من سبقنا من الصحابة والسلف يملكون ما نملك اليوم من مقدرة على معرفة حجم الضرر وسرعة انتشاره وأنه معدٍ في الاجتماعات، ومع ذلك لم يغلقوا المساجد مثلا أو يفتوا في أمر الحج لسلمنا لكم، ولكن ذلك لم يكن، وما استدلالكم بذلك إلا دليل على قصر نظركم وقلة فهمكم في أمور دينكم، وأما تهوينكم لأمر الداء وحجم انتشاره وما إلى ذلك فهذا الأمر ليس لكم، بل لأهل الاختصاص من أطباء وعاملين في المجال الصحي. والأدهى من ذلك كله جزمكم بنفي توقف الجمعة والجماعة والحج في تاريخ المسلمين كله، وأن الطواعين كانت منتشرة ولم تتوقف، وهذا تساهل في حكاية الإجماع ومجازفة لا ينبغي لأحد الإقدام عليها.

إن كل ما ذكرت آنفا ليس اجتهادا فقهيا حتى تصح استدلالاته، ولا فتوى ولا تدخل في عمل أي جهة من قريب أو بعيد، إنما هو بيان لفساد مسلك هؤلاء في تعاطيهم مع الأحداث واستغلالهم للمصائب التي تصيب البلاد والعباد من أجل جماعتهم ومصالحهم. وعُلم من النظر في أمر هؤلاء أن الحق ليس مقصدهم ولا الأمة ونصرتها منشدهم، إنما الجماعة والحزب. وكل من خالف النهج القويم انتصارا لنفسه أو جماعته على حساب الحق اعلم أنه على ضلال، وسيقع في أشر مما يفر منه، ولن تكون عاقبة أمره خيرا، «إلا من تاب وآمن وعمل صالحا..». ولو تعنوا لطلب العلم لكان خيرا لهم من كثير مما يُعنون إليه.

@Abdulkhaleqalm