الرأي

كيف كان أبي؟

‎خالد القحيص
الصفات والسمات والسلوكيات النبيلة هي الإرث الحقيقي الذي يتركه الإنسان في هذه الدنيا بعد رحيله، ويفخر بها أبناؤه وتواسيهم على فراقة.

ولنا في الكريم حاتم الطائي عبره حسنة، الذي تضرب بصفاته الأمثال عبر التاريخ، فهو الذي إذا سئل وهب، وإذا قاتل غلب، وكان ينحر كل يوم عشرا من الإبل ليعين المسكين ويسند المحتاج، حتى أصبح مضرب مثل وخلد التاريخ ذكراه.

بعد رحيل أبي (رحمة الله على ذكراه متى ما ذكر) ونحسبه عند الله شهيدا والله حسيبه، وزوال الصدمة المفجعة، بل الأحرى تصديق وقوعها، فلا زوال لأثر فاجعة رحيله، وانخفاض سيل الاتصالات والرسائل المنهمر ومرور الأسابيع الأولى الموجعة، والإبحار في عمق خصاله، والاستماع للمواقف التي تحكى من البعيد قبل القريب، أدركت بعمق ووعي تام عظمة أثر وقوة الصفات نبيلة والخصال حميدة، التي طالما سعى لزرعها في صدورنا.

ولعلي أذكر أولها حينما دخلت على والدتي فجر ثاني يوم من رحيله وهي في حجرتها، تسكب الدموع وتقرأ في كتاب الله (جبر الله قلبها الطاهر)، نظرت إليها فقالت لي «اقترب، واسمع ماذا قال الله في عباده الصالحين وهذا ما يتصف به أبوك» وإذا هي تبدأ قراءة قوله تعالى «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما» سورة الفرقان آية (63). «هذا والله هو أبوك يا خالد». كان أبي رجلا هينا لينا لا يخوض في مهاترات ولا يبحث بفعله عن ذكر أمام أحد. يعين المحتاج بالخفية وإن أتى بذلك على نفسه، كيف لا والإيثار صفته، ينفق مما رزقه الله ولم يؤذ أحدا، صافي السريرة لم يبغض ولم يحقد، ساعٍ للخير في كل أمر.

كنت أطلب منه الشدة في بعض المواقف فيقول لي «يا خالد وما الفائدة؟ فالعتب القاسي نتاجه الفرقة. وهل في الفرقة رضى لله أو فخر لأحد؟ جميعنا سنرحل قريبا ولن نأخذ من هذه الدنيا شيئا سوى ما تطيب به أفعالنا أو سنندم. كن حليما ساعيا بخير لكل أمر، تجنب الصراعات فلا منفعة ولا مكسب منها».

كان والدي فرحا بشوشا لا تفارقه الابتسامة وروح الفكاهة، إنسانيا في مواقفه وأخلاقيا في تعاملاته، كريما حليما وأكثر بكثير. خصال وصفات صعبة الإحصاء، وما هي إلا مظلة لمحتوى أجمل وأعمق كثيرا لكل ما جاءت به مكارم الأخلاق لتكون لنا منهجا متكاملا.

رحل والدي وأعظم ما غرسه في قلوب أهله وصحبته هو «عمق الأثر»، لم أكن أعلم أثناء التعازي هل أتقبلها منهم أم أقدمها لهم لعمق الألم الذي حل.

لم يكن حديثي هذا لأعرفكم بصفاته النبيلة، بل لأقدم لكم منهجا إنسانيا وأخلاقيا عشته وارتويت منه، ملخصة «كرم الأخلاق وصناعة الأثر»، وهذه لا تأتي صدفة. ولعل في حديثي هذا عنه تذكير لكل قاطع رحم أو معتز بإثم ودؤوب على الظلم أو من كان نماما وباطشا بالخصومة. سترحل ونرحل جميعا كما رحل أبي وكثير من المقربين لكم، ولكن أي منهج ستختار قبل الرحيل؟

اللهم جبرا جميلا، وصبرا على فراقه، والله المستعان، اذكروا والدي بدعوة.

@Khalid_alqhees