الرأي

المنحنى الطبيعي غير الطبيعي

علي الحوري
يعتبر المنحنى الطبيعي (Normal Curve) أحد أهم الاعتبارات التي تلجأ إليها الإدارات والأقسام العلمية لتقييم مخرجات العملية التعليمية نهاية كل فصل دراسي، خصوصا في مرحلة ما بعد الثانوية.

وحتى يتحقق هذا المنحنى الطبيعي، يجب أن تكون درجات غالبية الطلاب متوسطة، بينما يقل عدد الطلاب الحاصلين على درجات عالية أو متدنية كلما ابتعدنا عن المتوسط (ولهذا يسمى أيضا بمنحنى الجرس).

وبسبب سهولة هذه الطريقة التي لا تتطلب سوى نظرة على رسم بياني يوضح توزيع الدرجات، أصبح المنحنى الطبيعي جزءا لا يتجزأ من عملية تقييم جودة المادة التعليمية ومدرّسها. ثم تجاوز الأمر ذلك ليتم إضفاء هالة هي أشبه بالقدسية على هذا المنحنى.

فمتى ما زاد عدد الطلاب المتفوقين، توجهت أصابع الاتهام إما إلى مدرس المادة لتساهله، أو إلى اختبار المادة لسهولته، أو إلى الغش، أو غير ذلك من العوامل لاكتشاف «الخطأ» الذي تسبب في ارتفاع الدرجات وانحرافها عن هذا المنحنى الطبيعي.

وكذلك لو زاد عدد الطلاب ذوي الدرجات المنخفضة، فقد يُلام مدرس المادة على عدم قدرته على إيصال المعلومة أو صعوبة اختباراته.

ويتفاوت مدى الالتزام بهذا المنحنى من مؤسسة تعليمية لأخرى. فبعضها يتغاضى عن تطبيقه، ومنهم من يوجه مساءلة لكل مدرس تنحرف درجات طلابه عن المنحنى الطبيعي ارتفاعا أو انخفاضا.

فأصبح هذا المنحنى هو الشكل المثالي الذي يطمح لتحقيقه بعض المسؤولين الأكاديميين في كل مادة. فقد أخبرني شخصيا أحد هؤلاء المسؤولين بأن متوسط الدرجات يجب أن يكون تقدير جيد (Grade C) وإلا فيجب التحقيق لمعرفة مكمن المشكلة.

ونتيجة لهذا التوجه، أصبح هدف بعض أعضاء هيئة التدريس - تخوفا من مساءلة إدارته - هو تحقيق هذا المنحنى ولو بالتحكم بمدى صعوبة الاختبار أو صرامة التصحيح، بدلا من السعي لأن تعكس الاختبارات التحصيل الفعلي لطلبته.

وقلما نتساءل عن المنطق وراء هذا الإجراء الذي هو أشبه بالعادات المتوارثة جيلا بعد جيل. ويبدو أن الخطأ الجوهري الذي أدى إلى انتشار هذه الطريقة هو الخلط بين منهج الاختبار النسبي (Norm Referenced) ومنهج المعيار المطلق (Criterion Referenced).

والأصل هو منهج المعيار المطلق الذي يعطي الطالب حقه بغض النظر عما حصل عليه باقي الطلبة من زملائه.

فليس هناك معنى لاستخدام المنهج النسبي إلا في حالات محددة ومبررة. فالمغالطة في هذا المنهج الهجين هي أننا نجري الاختبارات لغرض الكشف عن مستوى الطلبة، ثم لا نقبل النتيجة إلا إذا كانت على شكل تخيلناه في عقولنا مسبقا. فإذا كان الغرض من الاختبار هو الكشف عن التحصيل الفعلي للطلبة وما إذا كانوا قد اكتسبوا المعارف والمهارات المنصوص عليها كأهداف للمادة، فما الضير في أن يكتسبها نسبة كبيرة من الطلاب؟ بل ألا ينبغي أن يكون ذلك أمرا محمودا لا مدعاة للشبهة؟

وفي حالة الانحراف عن المنحنى الطبيعي فليس بالضرورة أن القصور نابع من مدرس المادة. فقد يعود ذلك لخلل في الاختبار نفسه، وهذا غير معلوم بدون إخضاع هذه الاختبارات لأقصى درجات الصدق والثبات (Validity and Reliability) قبل تطبيقها على الطلبة. ولكن الواقع أن غالب الاختبارات لا يتم إخضاعها لهذه المعايير قبل تطبيقها.

ولا أذيع سرا إن قلت إن أغلب الاختبارات يتم طبخها بليل قبل موعد الاختبار بوقت قصير. وتتفاقم هذه المشكلة في الاختبارات غير الموضوعية (Subjective Tests).

فضلا عن أن كل هذا النقاش مبني على افتراض أن مجرد النظر إلى رسم بياني لتوزيع الدرجات كاف للتعرف على مدى مطابقته للمنحنى الطبيعي. وهذا غير صحيح دائما، فقد طور علماء الإحصاء اختبارات متخصصة في هذا الشأن (Normality Tests) لعدم دقة العين المجردة في كثير من الأحيان، وحتى هذه الاختبارات لا تعطي نتائج دقيقة على الدوام وإنما احتمالات (Probability).

وعلاوة على كل هذا، فإن تطبيق المنحنى الطبيعي على أرض الواقع يؤدي إلى آثار سلبية عديدة. أحدها أن كل مدرس يُخلِص في علمه - لدرجة أن يحصل طلابه على درجات عالية باستحقاق - سيكون عرضة المساءلة!

أي إن تفوق الطلاب قد يصبح وصمة عار على جبين مدرسهم. أما المدرس الذي يتصادف أن يكون طلبته ضعافا من الأساس، فهو أيضا يستحق المساءلة، مع أنه ليس سبب ضعفهم. فمستوى تحصيل الطلاب يختلف من شعبة لأخرى، وهذا أمر يدركه كل من له خبرة بسيطة في التدريس. وأما المدرس الذي يكون طلبته من المتوسطين، فمن الأفضل له أن «يضع رِجلا على رِجل» حتى يريح نفسه من ناحية وحتى يتفادى المساءلة من ناحية أخرى.

فلو أخلص في عمله وارتفعت درجات طلبته، فسيعرض نفسه للمساءلة. والأغرب من هذا كله هو أن هذه الطريقة تكافئ المدرس الكسول الذي يكون طلبته من المتميزين، فما عليه إلا أن يهملهم حتى يتدنى مستواهم إلى المتوسط. فلا أحد يوجه مساءلة لمدرس حين تتوافق درجات طلبته مع هذا المنحنى!

وقد يعتذر بعض المسؤولين بأنهم قلما «يعاقبون» مدرسا على انحراف درجات طلابه عن هذا المنحنى، وإنما الغرض من المساءلة هو الاستيضاح. ولكن هذا العذر واه نظرا للآثار السلبية التي خلفها استخدام هذه الطريقة على العملية التعليمية، ونظرا لعدم منطقية هذه العادة المتوارثة وغير المستندة على أساس علمي.

وهناك بدائل عن هذا المنحنى لتقييم المخرجات التعليمية. منها أن يُؤخذ بعين الاعتبار مستوى الطلاب قبل بدء المادة، إما عن طريق تحصيلهم في مقرر سابق مشابه أو عن طريق إجراء اختبار قبلي (Pre-Test). فتكون مهمة مدرس المادة هي المحافظة على مستوى الطلاب من التدني عن هذا المستوى على الأقل، بحيث يكون هذا بمثابة «أضعف الإيمان».

أما المدرس الذي يستطيع تطوير مستوى طلابه عن مستواهم السابق، وليس المحافظة عليه فحسب، فيُكافأ على ذلك. ومثال ذلك أن يتمكن المدرس من رفع مستوى طلابه من الضعيف إلى المتوسط، أو من المتوسط إلى المتفوق.

ولاحظ أن تقييم جودة العملية التعليمية هنا يقع بالنظر إلى التحصيل السابق للطالب نفسه، وليس بالنظر إلى منحنى مفترضٍ يقارن الطلبة بعضهم ببعض.

كما أن هذه الطريقة البديلة كفيلة بأن تحفّز المدرسين على رفع مستوى طلبتهم لما في ذلك من مصلحة وإنجاز للمدرس نفسه.

فحاليا، لا يستفيد المدرس من ارتفاع تحصيل طلبته لو بذل جهدا مضاعفا، بل قد يتعرض للمساءلة كما مر. وقبل كل شيء، فالتخلي عن عقدة المنحنى الطبيعي - غير الطبيعي - هو عين العدل، فيأخذ كل ذي حق حقه بغض النظر عن مستوى من تصادف أن يكون جالسا بجانبه في الفصل نفسه.

@Ali_AlHoorie