الرأي

هلامية قناة الجزيرة

طلال الشريف
أتفهم أن تقوم دول عظمى باستخدام سلاح الإعلام للترويج لسياساتها وتبريرها أو استعراض جوانب التقدم والتفوق في مجال العلوم الحديثة أو تشكيل صورة ذهنية للنفوذ الذي لا يقهر أو مهاجمة خصومها، ولكن ما يصعب تفهمه كيف لدولة مثل قطر مع احترامي لها - ككيان سياسي وجغرافي وكشعب - أن تلعب دورا إعلاميا لا يوازي مكانتها التاريخية والسياسية والجغرافية بأي حال من الأحوال، بل يستنزف مواردها وقدراتها المالية، على حساب تنميتها وجعلها محط أنظار العالم في المجال الاقتصادي، ولو اختارت الحياد السياسي والإعلامي في ضوء مقوماتها لتخطت سويسرا في مكانتها الدولية.

وقطر شهدت خمسة انقلابات بمعدل انقلاب كل عقد من الزمان منذ تأسيسها، في حالة شاذة على مستوى العالم، مما يعكس وجود خلل في طبيعة نظام الحكم وممارساته السياسية، ويبدو أنها مؤمنة بتصدير ممارساتها الانقلابية إلى الدول الخليجية والعربية، بدليل إنشائها لقناة الجزيرة من منتصف التسعينات الماضية لتمارس دورها الإعلامي التحريضي والتشكيكي، بعيدا عن المعايير المهنية المعتبرة، تحت شعار «الرأي والرأي الآخر» وهو شعار هلامي خادع في هويتها الرئيسية كقناة إخبارية وفي برامجها الحوارية والوثائقية التي تتسم بهبوط مستوى أدائها المهني، ولا أبالغ إذا وصفت قناة الجزيرة بأنها سوق سياسي رخيص للنزقين والمهووسين لتحقيق مطامع ليسوا بحاجة إليها.

وقناة الجزيرة ارتكبت أخطاء جسيمة لا علاقة لها بالإعلام النزيه ومعاييره المهنية المعروفة، فهي تعتمد على الحكومة القطرية في تمويلها الملياري بشكل كامل، وبسبب ذلك التمويل تقوم الحكومة القطرية باستخدامها كذراع سياسي إعلامي ضد أنظمة الحكم العربية، خاصة المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات. وكل تلك الممارسات من حكومة قطر بواسطة ذراعها السياسي الإعلامي يعد انتهاكا صارخا للمواثيق الدولية في العلاقات بين الدول ككيانات سياسية مستقلة وسيادية لها وعليها حقوق وواجبات متبادلة.

ففي مجال الأخبار تبث أخبارها دون حيادية ولا موضوعية ولا إنسانية، لأنها تركز فقط على الأحداث السلبية في سياسة الحكومات، متجاهلة الجوانب الإيجابية والإنجازات التنموية لتلك الحكومات، وتنشر المشاهد المروعة للضحايا دون ما احترام لخصوصيتها وحرمتها، وتعرت القناة تماما وفقدت مصداقيتها عندما تحولت إلى غرفة عمليات عسكرية في إدارة ثورات الخريف العربي وتغذيتها بقوة، بل حتى صياغة الأخبار وتحليلاتها تقوم على الإثارة واستثارة عواطف الشعوب على حكوماتها، وتقحم نفسها في القضايا السياسية والاقتصادية الداخلية الحساسة، فضلا عن استضافتها للمعارضين ومنحهم مساحة كبيرة في برامجها، وتبني طروحات وأفكار الجماعات المتطرفة وقياداتها، وإبراز نشاطاتها ومشروعيتها وأحقيتها تحت شعارات الحرية الكاذبة والديمقراطيات الزائفة.

وفوق ذلك تمارس الانتقائية في تغطية الأحداث في العالم العربي، ولا تقترب من القضايا القطرية الداخلية والخارجية الحساسة والمتعلقة بالسيادة كوجود أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط، ووجود القوات التركية، والتدخلات الإيرانية، واستضافة قيادات المتطرفين، وتأسيس أكاديميات للتغير السياسي تستقطب فيها الشباب للتغرير بهم ضد حكوماتهم، وتمويل كثير من المؤسسات الإعلامية على مستوى العالم، وقضايا الفساد المرفوعة على قطر في بعض المحكم الدولية، وإن حدث وتناولت شيئا منها لا يتجاوز القضايا الهامشية في قطر.

وعلى مستوى البرامج الحوارية تتبنى اتجاهات فكرية للقائمين عليها، وتسعى إلى إثبات مصداقية تلك الاتجاهات الفكرية وأهمية اتباعها والسير في ركابها، وهو ما يتنافى مع الحيادية والموضوعية والمعايير المهنية الإعلامية التي يجب أن يتصف بها مسيرو البرامج الحوارية في قناة الجزيرة، فبعض البرامج الحوارية التي يفترض أن تكشف أبعاد القضايا التي تناقشها بحياديه تتحول بقدرة قادر إلى برامج للصراخ والاعتداء اللفظي والجسدي، وزيادة مستوى الغموض والتشويش للقضايا المطروحة في البرنامج وبتغذية من مدير البرنامج، ومثال ذلك برنامج الاتجاه المعاكس، وهناك برامج أخرى يأخذ فيها مدير البرنامج دور المحللين وفقا لقناعاته الشخصية ومواقفه، ويقاطع المتحدثين بشكل منتظم في أفكارهم وحواراتهم ويخرجهم بقصد عن صلب المواضيع المطروحة للنقاش، ومثال ذلك برنامج أكثر من رأي، وهناك برامج تفرغ مسيروها لإثبات آرائهم في أنظمة الحكم العربية وسياسات القادة والتركيز على المعلومات التي تتوافق مع آرائهم وتوجهاتهم الشخصية، وتدعم مواقفهم تجاه خصومهم، ومثال ذلك برنامج بلا حدود.

وفي برامجها الوثائقية التي تبثها القناة لا يوجد رسالة وقضية واضحة، بل غيبت كثيرا من الأحداث والوقائع، وخلطت وحرفت الحقائق، وابتعدت عن الحيادية والمصداقية، وركزت فيها على عملية التأثير على مشاعر المشاهد لأغراض التغيير السياسي والاجتماعي الذي تسعى إلى تحقيقه.

لقد تجاوزت قناة الجزيرة كل معايير المهنة الإعلامية الشريفة بمباركة وتأييد ودعم من الحكومة القطرية، وأكسبت قطر عداوات كثيرة لا مبرر لها، وجراء تلك التجاوزات والتدخلات أبدت كثيرا من الدول العربية والإسلامية تذمرها واستياءها من سياسة القناة ونهجها الإعلامي، وبعض الدول أغلقت مكاتب القناة، وفشلت كل الجهود والضغوط الدبلوماسية على قطر لإقناعها بتغيير منهج القناة وسياساتها الإعلامية في سبيل المحافظة على قطر ضمن نسيجها الخليجي ككيان سياسي حيادي مستقل.

والمملكة العربية السعودية خاصة تعرضت لمخططات قطرية خطيرة هدفها محاولة تغيير نظام الحكم، كشفتها التسجيلات الصوتية لحاكم قطر السابق ووزير خارجيته، وعدم التزامها بالاتفاقيات والتعهدات الخاصة التي وقعها حكامها في وقت سابق، واستهدافها في السنوات الأخيرة للأسرة المالكة، بهدف بث الفرقة بينهم ومحاولة تأليبهم على ولي العهد بطريقة غبية وساذجة ومكشوفة لإسقاطه بأي طريقة كانت، بعد أن فشلوا في تشويه صورته في نظر الشعب السعودي المتلاحم مع قيادته، وكذلك السياسات التي تتبناها الحكومة القطرية في دعم المتطرفين في الداخل وتأهيلهم لإحداث التغيير ودعم المعارضين في الخارج، وعززت حكومة قطر تلك السياسات بممارسات قناة الجزيرة التي ركزت معظم بثها الإخباري وبرامجها الحوارية وأفلامها الوثائقية على القضايا السعودية الداخلية والخارجية وتشويه سمعتها محليا ودوليا، واتخاذ مواقف سياسية دولية معارضة ومقصودة في مواجهة المواقف السياسية السعودية.

إن الحكومة القطرية معنية اليوم بإدراك حجم التهديدات والمخاطر على مستقبلها وعلاقاتها الدولية، خاصة مع جيرانها بسبب سياستها في إدارة قناة الجزيرة، واستخدام القناة كذراع سياسي وإعلامي خطير يهدد أمن المنطقة واستقرارها، بتدخلات القناة في القضايا الداخلية الحساسة للدول وتضليل الرأي العام، وتأليب الشعوب على حكوماتها، وأن تراعي شعبها الأصيل الذي يدفع ثمن سياسات حكومته في إدارة وتوجيه قناة الجزيرة، وحمايته من العزلة عن محيطه الخليجي والعربي وحتى الإسلامي.

كما يجب أن تعي حكومة قطر حجم الخسارة الفادحة من مقاطعة خمس دول مهمة في المنطقة، تمثل بالنسبة لقطر العمق الاستراتيجي الحقيقي، خاصة المملكة العربية السعودية، وأقل ما يمكن أن تقدمه حكومة قطر وبكل شجاعة ولإثبات حسن النوايا إعادة هيكلة القناة من الناحية التنظيمية والبشرية وإحداث تغيير جوهري في رؤيتها ورسالتها وأهدافها وبرامجها الإعلامية، بما يمكنها من التفرغ التام لدورها الإعلامي الحيادي المهني، والمحافظة على مكانتها وسمعتها بين المؤسسات الإعلامية الدولية المرموقة.