تفاعل

بضاعة كاسدة!

في زمن الانحطاط الفكري وفساد الذوق والفن الهابط والتهريج الإعلامي والهراء المقنن والجدل حول لون الماء وطعم الهواء، زمن أصبح الفساد فيه شطارة وفهلوة وذكاء، وتبني الأمانة والعمل بمضمونها أصبح تنبلة وغفلة وغباء.

تتقاذفك الأهواء بين التمسك بمبادئك التي أقسمت عليها في زمن كانت المبادئ هي رأسمال الكاتب والتاجر والمعلم والموظف وكل صاحب حرفة ومهنة، وبين التخلي عن القيم والسباحة مع التيار، وفي أي اتجاه التفت وجدت أنك عبارة عن رقم لا يقبل القسمة على شيء، فحينما تقرر أن تحمل مبادئك وتتوسل في طرقات المدينة وتحاول بكل مهارة التاجر أن يشتري السابلة بعضا من بضاعتك المزجاة فإنهم سوف يسخرون منك ومما تحمل، فلا تجد بدا من أن تبخسها الثمن علك تجد من يشتريها والناس يشيحون بوجوههم عنك وعن بضاعة كانت بالأمس الدابر غالية الثمن واليوم البعض إن لم يكن الكل يرغب في بضاعة لا تسمن ولا تغني من جوع في عرف أبناء اليوم.

عندما ينهكك التعب وينال منك النصب والخشية أن تبور بضاعتك - مبادئك وقيمك أخلاقك - تتخذ زاوية قصية في السوق لا تريد أن يشاهد أحد انكسارك، تفكر في عرضها بالمجان خشية أن تفسد، حتى هذه المبادرة أشاح الناس وجوههم عنها وعافوها وكأنها مساوئ، وهي محاسن وفضائل، وكل شيء جميل في عالمنا. إن هذه الصفات لم تتغير فهي ثابتة كالجبال لامعة كالنجوم، ولكن توجهات الناس هي التي تزحزحت وانقلبت على عقبيها. وأتساءل: ما دام كل شيء يباع ويشترى في حاضرنا حتى الضمائر والأحاسيس فلماذا عاف الناس بضاعتي التي عرضتها عليهم إلى درجة المجان؟ لماذا لا يجربون اقتناءها ولو لمرة علهم يجدون فيها بعض المنافع؟ والجواب جد بسيط وسهل، لأنهم إن اقتنوا تلك البضاعة تحولت أخلاقهم وصقلت فانقلبوا من المادية البحتة إلى الروحانية العالية، وهذا هو ما يخشاه دعاة الرذيلة، لا يريدون من الناس أن يتحولوا من فوضويين إلى النقيض تماما، فيؤثروا النظام على الفوضى فيفشل مخططهم ويفقدوا حينئذ امتيازاتهم ومكانتهم التي اعتادوها.

فضائل كثيرة أصبحت ترى وكأنها رذائل، الإخلاص والأخلاق والقيم والمبادئ والجود والعطاء بدون من أو أذى أو رياء بل ابتغاء رضوان الله والمثوبة منه. فهل يعقل أن تنقلب أمة قائدها محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد المصلحين.

قال أحمد شوقي:

المصلحون أصابع جمعت يدا

هي أنت بل أنت اليد البيضاء

لا بد أن هناك خطأ ما قد حدث في غفلة من الناس الذين كانوا يضرب المثل بهم في مبادئهم وقيمهم، فهل تقادم الزمن يؤثر في أخلاق الناس؟ وهل القيم تسقط بالتقادم؟ لماذا أصبحت الحيرة سيدة معظم مواقفنا، تائهين في زحمة اغتيال المثل، حائرين في اتخاذ قراراتنا نستشير ذوي الآراء فإذا هم مثلنا حائرون.

لكن رغم كل هذا هناك دائما ضوء في آخر النفق المظلم، يستنير به من ينشدون الخلاص والنجاة والذين مهما ضاق بهم الحال يتفاءلون ويحاولون صقل الهمم لتخطي الصعاب، هم من نتشبث بهم علنا نصل معا في سفينتهم إلى بر الأمان، وحتما هناك دائما بر للأمان لا محالة.