مغامرة الصمت

الجمعة - 08 ديسمبر 2017

Fri - 08 Dec 2017

في بعض الأحيان يرغمك الوقت وتلح عليك الأحداث أن تلتزم الصمت، وتظهر للناس أنك عيي بليد لا تجيد الكتابة أو التعبير عما يدور حولك من أحداث بكل تفاصيلها ومنعرجاتها وشجونها. وقد علمتني الأيام أنني إذا لم أجد من يقرأني ويفهم ما أخط وأسطر فلا جدوى من إرهاق الناس وإهدار الوقت فيما لا طائل منه، والأفضل من ذلك هو أن تمزق قراطيسك وتكسر محبرتك ومرقمك، وتتخذ زاوية قصية في مقابر الأفكار فتحفر عميقا وتدفنها مع أفكارك وآرائك التي لا تصلح ولا تتماشى مع عصر أنت فيه غريب.

أيها القراء ما الفائدة أن نكتب لكم شيئا لا نعتقده ولا نؤمن به، نكتب فقط لمجاراة الأحداث مهما كانت غير مقنعة وتتسم بالغموض ومليئة بالطلاسم والألغاز، فهل ترضون أن نغشكم ونخدعكم، فإنا لا نرضى ذلك لكم أبدا، فالصمت في زمن الهراء والجدل العقيم فضيلة لأنك إن حاولت أن تتوغل في التاريخ بكل ما فيه، سواء مآسيه أو فضائله يتهمك البعض أنك حبيس لذلك الزمن الذي ولى وانقضى، وليس من العقل والحكمة أن توقظ أجسادا وأفكارا ومعتقدات وآراء قد رمت وبليت، وأرواحا آثرت سكون المقابر وأحبت الهدوء والسكينة إلى أن تنادى لفصل القضاء وأنت مطالب بتركها، وما اختارت برغم علم منتقديك ومناوئيك أن أية أمة مهما بلغت من الرقي والتقدم والحضارة لا يمكن أن تنال ذلك إلا بالرجوع ولو بقدر يسير إلى الماضي وأخذ كل محاسنه، فكم في الماضي من محاسن مهما حاولوا الانسلاخ منه فهو يظل منهم ومعهم وفيهم، يجري في شرايينهم وأوردتهم، وإلا كان من الواجب أن نتخلى عن أسماء أجدادنا الملتصقة بنا والتي نتفاخر بها، فنحن لسنا أبناء الحاضر فقط، بل أن جذورنا لتمتد ضاربة في الماضي.

أما إذا حاولت الكتابة في أمور فيها ما فيها من تقلبات وتضاريس ومنعرجات، فحتما ولا بد أن تحاول أن تلمع بعض زجاج مبانيها المتسخ بالكذب، وتمسح عن موائدها المستديرة أو المستطيلة، أو أيا كان شكلها، نعم تمسح عنها ما علق بها مما يعرفه كل ذي عقل وفهم حتى تكون كلماتك مقبولة، مهما عارضت معتقدك وما تؤمن به في قرارة نفسك، وأما مقولة (أنا لا أكذب ولكن أتجمل) إنما هي نابعة من وخزات الضمير، ويحاول قائلها كتم أنفاس ضميره الذي يحاول الاستيقاظ.

وإذا أردت أن تكتب في الأدب والفن في زمن يكاد يخلو من المعاني الفاضلة لهاتين الكلمتين إلا ما ندر، فعليك أن تهبط إلى المستوى الذي يريده المجتمع الحديث، والوسط الفني مهما كان الفن هابطا ورخيصا ويباع في سوق نخاسة الفن الهابط والفكر المنحرف الذي لا يستفيد منه سوى تجار النخاسة الهابطون الذين يقبلون بالرخيص التافه ليشبعوا أرواحهم وأحاسيسهم التي تعلقت بالمادة لأنه لم تبق أحاسيس مرهفة وشعور يقظ يتذوق الجميل من الكلمات الصادقة التي تسير وتسيل روعة وجمالا.

حاول مرة أن تكتب عن بعض سلبيات مجتمعك الذي تعيش فيه فستجد من ينبري ويسل عليك سيف اللوم والانتقاد اللاذع بأنك تحاول تغيير سلوك قد تأصل، وعادات أصبحت ربما تحاكي العبادات مهما كانت سيئة، فهناك من يتقبلها بل ويستميت في الدفاع عنها بكل قواه وستوصف بأنك تعيش في المثالية التي عفا عليها الزمن، ودفنت منذ وقت بعيد، وأنت لا تزال تتغنى بها وتتمسك وتنافح عن أمر يجعلك رجعيا متأخرا عن ركب الحضارة!

وأنا بحديثي هذا لست متشائما أبدا ولا أعمم بل أعبر عن واقع معاش في بعض المجتمعات التي تتخذ من التقليد الأعمى نبراسا ومشعلا تظن أنه سيهديها في ظلمات جحر لم تكن هي من حفره، بل اتباع وتقليد فحسب، هذه حقيقة حتى ولو حاول البعض دس رأسه في الرمال بعض الأحيان استنادا وعملا بالقاعدة الانهزامية التي تقول (ننحني حتى تمر العاصفة من فوقنا بسلام)، فماذا إن لم تهدأ العاصفة، وظلت ترعد وتزبد وتزمجر، ولا بد أن هؤلاء لا يضيرهم أن يظلوا منبطحين حتى يستمرؤوا الانبطاح والانحناء فيتعايشون معهما وبهما ويصبحا سمة وصفة ملازمة لهم وملتصقة بهم.

وفي النهاية هناك مبادئ لا يجب على المرء أن يتخلى عنها ولو في قرارة نفسه، ومداخيل وخفايا ضميره، والنفس السوية دائما ما تحاول أن تعيش مغامرة نبيلة، وتحب أن تخرج منتصرة منتشية جذلى بما حباها الله من عزة وكرامة حتى وإن كانت هذه المغامرة هي الصمت والسكوت.

الأكثر قراءة

جميلة عادل فته

رجال الأمن.. رجال