الرَّحَّالة التُّونسيّ محمَّد السُّنوسيّ.. النَّهضة تبدأ مِنْ مكَّة

السبت - 26 أغسطس 2017

Sat - 26 Aug 2017

في كلِّ ترجمة شخصيَّة ما يدعوه نقَّاد هذا الضَّرب مِنَ الأدب «مسوِّغات» التَّرجمة – أوْ مبرِّراتها – ونجد عين النَّاقد تبحث في أثنائها عنْ المسوِّغ الَّذي حمل الكاتب على أن يُدير الكتابة في شأنٍ مِنْ شؤون النَّفس، يذكره نفرٌ مِنَ الكُتَّاب ويُغْفِله آخرون، فإذا كانتِ الأخيرة بحث النُّقَّاد عنْ مسوِّغٍ كامن في التَّرجمة، ولوْ لمْ يَبُحْ به صاحبها.

وفي رحلة الحجّ «مسوِّغ» يبوح به جمهرة مِنَ الرَّحَّالين، ويسكت عنه آخرون، ولسْنا نعني بالمسوِّغ الَّذي دفع الرَّحالة ليقيِّد رحلته ما استكنَّ في هذه الشَّعيرة مِنْ معنًى دينيّ هو رُكْن مِنْ أركان الإسلام، فذلك ما لا يحتاج إلى بُرْهان، وإنَّما نريد به أنَّ الرَّحَّالة ينشئ في أمر رحلته إلى الدِّيار المقدَّسة كِتابًا صغيرًا أوْ كبيرًا، يريد به شيئًا ما، وأنَّه، مهما تنازعتْه الأفكار وطُرُق القول، لا ينفكُّ يُلِحُّ على ذلك الشَّيء، فابن جبير اضطرَّه صاحب غرناطة ابن سعيد على شُرْب الخمر، فأضمر في نفسه تكفير هذه الكبيرة بالحجّ، وغير وزير أوْ ذي منصب في المغرب أو الأندلس كان إذا أراد الاستعفاء مِنْ وظيفته استأذن سيِّده في الحجّ، وتكاد تفرغ غير رحلة للدَّرْس، ومشافهة العلماء، فكانتْ أدنى إلى كُتُب الإجازات والمشيخات مِنْها إلى كُتُب الرِّحلات. وتقفنا جمهرة مِنْ كُتُب الرِّحلة الحجازيَّة على نمط طريف مِنَ الكتابة يقيِّد به رحَّالة حَجَّ سيِّده، حاكمًا كان، أمْ أميرة مِنْ أميرات البيت الحاكم في هذا الصُّقْع أوْ ذاك مِنْ ديار المسلمين، فلمَّا أَظَلَّنا العصر الحديث أوشكتْ غير رحلة مِنَ الرِّحلات الحجازيَّة تُشبه التَّقرير يرفعه «أمير الحجّ» إلى رئيسه، واعتدْنا أنْ نُطالع في هذا الصِّنف مِنَ الكُتُب بيانًا بما صُرِفَ على الأشراف، والعلماء، والأعيان، والعُرْبان، وثَبَتًا يُقَيِّد فيه أمير الحجّ عدد الجِمَال والبِغال الَّتي عليها قِوام الرِّحلة، فخلصتْ إلينا طَرَائف مِنْ تاريخ الحجّ تباين ما استقرَّ، مِنْ قبل، في مثيلاتها.

ومهما اختلفتِ الدَّوافع الَّتي حملتِ الرَّحَّالين على تقييد ما عَرَضَ لهم في رِحلاتهم إلى الحجاز = فإنَّ في تلك الكُتُب دافعًا، يُعلن، حِينًا، ويُضْمَر، حِينًا آخر، لا تَخْلُو مِنْه أيُّ رحلة، مهما كانتْ، وليس ذلك الدَّافع سوى «التَّعارُف»، رآه جمهرة مِنْ أهل البصيرة مقصدًا مِنْ مقاصد الحجّ، فالحاجّ الَّذي شهدتِ الفلوات على رحلته لا يُحِسُّ معنى «الأُمَّة» إلَّا في الحجّ، وإلَّا في الطَّريق، وكأنَّه، لَمَّا انفصل عنْ بلدته أوْ قريته، إجابة لنداء الحجّ، كان كمن يتهجَّى قسمات أمَّته الَّتي يعتزي إليها، كلَّما سلك هذا الطَّريق، أوْ هبط هذه الأرض، فإذا بلغ البيت العتيق شارف بنفسه تلك «الأُمَّة»، واتَّصل الشَّاميّ بالمغربيّ، والمصريُّ بالهنديّ، والتُّركيّ باليمانيّ، فإذا كان الحاجُّ عالمًا أوْ متعلِّمًا كان الحجّ سبيله إلى الكُتُب والإجازات والتَّعلُّم والتَّعليم.

لكنَّنا ظهرْنا في غير رحلة مِنَ الرِّحلات على معنًى للحجّ جديد، فسليمان فيضى في التُّحفة الإيقاظيَّة في الرِّحلة الحجازيَّة، ومحمَّد حسين هيكل في رحلته في منزل الوحي، قرآ في اجتماع الحجّ معنًى مِنْ معاني «النَّهضة»، و»اليقظة»، وانتهى هيكلٌ إلى أنَّه لا سبيل لرُقِيِّ الأُمَّة ونهوضها إلَّا بما قُدِّرَ لها، وكان أصلًا مِنْ أُصُولها، وإنَّه لَيقول ذلك بعد أنْ طَوَّفَ ما شاء له التّطواف في تلك الأفكار الَّتي اضطرب بها فؤاده، ما بين فكرة غربيَّة، وفكرة وطنيَّة ضيِّقة، قبل أن يلوذ بما دعاه «الفكرة الإسلاميَّة».

والحقُّ أنَّ ما اصطنعه سليمان فيضي ومحمَّد حسين هيكل ليس شيئًا جديدًا، وإنَّنا لَنَرَى، مِنْ قبلهما، كيف تقلَّبتِ النُّخُب المفكِّرة في غير متَّجه، وصار لنا مِنْ ذلك تيَّارات واتِّجاهات عرفْنا مِنْها «الجامعة الإسلاميَّة»، و»القوميَّة العربيَّة»، و»الوطنيَّة»، وتَحَدَّرَ إلينا تراث ضخم يسأل أصحابه: أين الطَّريق؟ ولماذا تأخَّرْنا وتقدَّم غيرنا؟ وأورد كلٌّ دلاءه، واختلفتِ المشارب وتباينت الأفكار، على ذلك النَّحو الَّذي يختلف فيه رفاعة الطَّهطاويّ عنْ أحمد فارس الشِّدياق، وخير الدِّين التُّونسيّ عنْ جمال الدِّين الأفغانيّ، ومَنْ خَلَفَ بعدهم مِنْ زعماء الإصلاح، وأبعدهم صِيتًا محمَّد عبده ورشيد رضا وابن أبي الأضياف.

والتُّونسيّ محمَّد بن عثمان السُّنوسيّ (1267-1318هـ) معدودٌ في الرَّحَّالين، ومعدودٌ في زعماء الإصلاح في العصر الحديث، عُرِفَ، أكثر ما عُرِفَ، بجمهرته الواسعة الرِّحلة الحجازيَّة ذات الأجزاء الثَّلاثة الكِبار، قَيَّدَ فيها خبر رحلته إلى الدِّيار المقدَّسة، منذ انفصل عنْ وطنه يوم الثَّامن مِنْ شهر رجب سنة تسع وتسعين ومئتين وألف للهجرة، حتَّى آبَ إلى دياره، وكان لنا مِنْ جمهرته تلك كِتاب في أدب الرِّحلة، ومشروع مفكِّر وإصلاحيّ تونسيّ كبير، كان الحجّ الباعث على أن يُدِيم نظره في مسائل كانتْ تُلِحُّ على الأُمَّة، آنئذٍ، وكان له، إزاءها، مذهب ورأي.

نقرأ في المقدِّمات الَّتي بسط فيها الدَّكتور عليّ الشَّنُّوفي القول تمهيدًا للرِّحلة = مقدار ما للسُّنُوسيّ مِنْ سَهْم في الفكر الإصلاحيّ العربيّ الحديث، وحسْبُنا أنْ نُعِيد إلى الشَّنُّوفيّ الفضل في إرشادنا إلى هذا المفكِّر التُّونسيّ الكبير، نشر رحلته نشرة علميَّة رصينة، واختصَّ، مِنْ قبل، بدرسه، ووضع فيه كِتابًا باللِّسان الفرنسيّ دعاه مفكِّر تونسيّ مِنْ أهل القرن التَّاسعَ عَشَرَ: محمَّد السُّنُوسيّ، حياته وآثاره، فدلَّنا، بكِتابه ذلك، على مقامٍ حقيقٍ بالرَّجُل أن يبلغه في ثقافة العرب المُحْدثين، فإذا مضينا نقرأ الكِتاب ألفيْنا «الرِّحلة الحجازيَّة» تحتلُّ جزءًا يسيرًا فيه، وانبسط سائر الكِتاب في تقييد مشاهداته في أوربَّا ومُدُن الشَّرق وتركيا، وبثِّ تأمُّلاته فيما رآه وسَمِعه.

كان نصيب الحجاز في الرِّحلة الحجازيَّة قليلًا، وإنَّه ما اصطنع هذا العنوان إلَّا لأنَّ الحجَّ كان الغاية مِنْ ضَرْبه في الأرض، وليس ذلك شيئًا جديدًا، فابن بطُّوطة، مِنْ قبل، ما خرج مِنْ بلدته في المغرب الأقصى، إلَّا مِنْ أجل الحجّ، فلمَّا انفصل عنها، جعل يضرب في الأرض، وصار لنا مِنْ ذلك رحلته العظيمة الَّتي يعرفها العرب والعجم والبربر! ولمْ يكنْ غريبًا أنْ تكون الآية القرآنيَّة الكريمة {قُلْ سيروا في الأرض} فاتحة ما خطَّه السُّنوسيّ في رحلته، ولن يغيب عنَّا أنَّ الرَّحَّالين المسلمين اتَّخذوا السَّير في الأرض استجابة لأمر الله – تبارك وتعالَى – فساغ أن نقرأ عند السُّنُوسيّ هذه الآية الكريمة {جعل لكم الأرض بساطًا لتسلكوا منها سبلًا فجاجًا}، على أنَّنا لا نكاد نمضي إلَّا قليلًا حتَّى نعرف السَّبب الَّذي حمله على السِّياحة في أوربَّا، قبل أن ينتهي إلى البيت الحرام، في الحجاز، وهو «التياث الأحوال في كثير مِنَ الجهات، وتضعضع الأركان مِنَ الجبال الرَّاسيات»، لكنَّ الصِّعاب الَّتي اعترضتْه، واضطراره إلى أن يغشى أوربَّا، لمْ يُفَوِّتا على هذا المصلح الدِّينيّ الكبير أن يتهدَّى إلى سِرّ تقدُّم الغرب، ومقدار ما بلغه، فكانتْ رحلته مدوَّنةً معاصرةً لأسماء المخترعات الحديثة الَّتي شارفها في أوربَّا، وليس راءٍ كمنْ سَمِعَ، «وليس شيء مِنْها بمستحضَر لغير المخبِر عنه مِنْ أحوال الأُمم وكلّ خبر محتمل للصِّدق والكذب. ولهذا ترى مِن اختلاف المؤرِّخين وأغلاطهم ما لا يقصر عن اختلافات النَّاقلين وأخلاطهم مِنَ الأخبار المنقولة بالوسائط الجديدة. وآفة الحديث رُواته».

بَسَطَ محمَّد بن عثمان السُّنوسيّ القول في سِرِّ تقدُّم أوربَّا، وجَلَتْ لنا رحلته مَشَاهد مِنْ تلك الحضارة الَّتي عاينها في غير ناحية في تلك القارَّة، وأَشْبَهَ ما أنشأه ما ساقه مِنْ قَبْلُ رفاعة الطَّهطاويّ في تخليص الإبريز في تلخيص باريز، وأحمد فارس الشِّدياق في كشف المُخَبَّا عنْ فنون أوربَّا، بلْ عساه فاقهما بسطًا وتوسُّعًا، ومِنَ الطَّريف أنَّ رحلته أظفرتْنا بكَلِمٍ وافرٍ مِمَّا استحدثتْه الحضارة الأوربِّيَّة، ورأيْنا مكابدته مِنْ أجل التَّعريف بذلك الكَلِم الجديد، وكيف رشح جبينه وهو يسكُّ المصطلح العربيّ، فإذا أعجزه التَّهدِّي إليه ساق المصطلح الأعجميّ كما هو، وكان، في كلّ أحواله، مهمومًا بالبحث عنْ رأي الدِّين والفقه في مخترعات تلك الحضارة الجديدة، واعتاد القارئ أن يظهر، مِنْ حين إلى آخَر، على مبحث في الفقه، ومذهب في الإفتاء يسوق فيهما محمَّد السُّنُوسيّ رأي الفقهاء والمفتين، في «التِّياترو»، و»الصُّحُف والمجلَّات»، ثُمَّ يُنْهي إلى قارئه صفحات ماتعات عن مسرحيَّة اختلف إليها لَمَّا هبط مدينة نابُلي بإيطاليا، ويستبق الأحداث فيروي غِشْيانه لمسرح أبي خليل القبَّانيّ في دمشق، وكان رأيه في المسرح حسنًا جميلًا.

كان محمَّد السُّنُوسيّ مفكِّرًا بصيرًا، وكان مِنْ عادته أن يُشْبع ما عرض له تأمُّلًا ونظرًا، يشفع مذهبه في الفقه، بتأمُّله في فقه العُمران، وتُظهرنا رحلته عنْ مقدار ما لابن خلدون ومقدِّمته الجليلة عليه مِنْ سطوة وسلطان، وألِفْنا أنْ نُطَالع، حينًا بعد حين، رأيًا لفيلسوف العُمران، يشرح فيه هذه النَّازلة مِنَ النَّوازل الَّتي أثارتْ عقل فقيه مسلم في أواخر القرن الثَّالث عشر للهجرة، وأوائل الرَّابع عشر، ولا جَرَمَ أنَّ السُّنُوسيّ ضَرْبٌ فريدٌ مِنَ المفكِّرين الإصلاحيِّين، مهما كان مغمورًا مجهولًا.

ولَمَّا هبط السُّنُوسيّ الحجاز، كانتْ عينه مشغولةً بـ»العلوم والمعارف»، وكان حظّ الحجاز عظيمًا إذْ قَيَّدَ طَرَفًا واسعًا مِنْ حركة العِلْم والأدب والتَّدريس في الحرمين الشَّريفين، ونقل إلينا شيئًا مِنْ دروس مفتي الشَّافعيَّة السَّيِّد أحمد زينيّ دحلان وشبَّهها بالنَّهر والجداول:

«ووجدْتُ الحرم المكِّيَّ فيه كثير مِنَ العلماء يُقرئ الدُّروس مِنَ الفقه والتَّوحيد والنَّحو. ومِنَ المبتدئين مَن يُقرئ مناسك الحجّ، ووجدْتُ مفتي مكَّة، يومئذٍ، وشيخ شيوخها العلَّامة المحصِّل الشَّيخ أحمد دحلان يُقرئ تفسير البيضاويّ بعد صلاة الصُّبح ويحضر دروسه كبار العلماء، بحيث إنَّهم، بعد انفصالهم مِنْ درسه، يتفرَّقون في جهات الحرم للتَّدريس بها، فتخرج مِنْ بحر درسه تلك الجداول الَّتي تستمرّ بقيَّة اليوم».

ومؤرِّخ الثَّقافة واجدٌ، لا شكَّ، عند السُّنُوسيّ كلامًا ثمينًا عن الحياة الثَّقافيَّة، أواخر القرن الثَّالث عشر للهجرة وأوائل الرَّابع عشر، فبلاط شريف مكَّة المكرَّمة وأميرها، آنئذٍ، عبد الله بن محمَّد بن عون يغشاه الأدباء والعلماء، وكان صاحبه مولعًا بمناظرات أهل العِلْم، وانطوتْ رحلته على آثار شِعْريَّةٍ عزيزةٍ لشعراء مكِّيِّين مجهولين، مِنْهم حسن وفا، وعليّ بن عبد الله الرَّيِّس، حتَّى إذا نزل بالمدينة المنوَّرة ساق إلينا وصفًا لمجالس الأدب والعِلْم فيها، وأحطْنا بما كان يلهج به أهل العِلْم فيها، بلْ إنَّه أظفرَنا بتراجم واسعة للشَّيخ عبد الجليل برَّادة، ومحمَّد بن ظافر المدنيّ، وعليّ بن ظاهر الوتريّ، ومحمَّد بن محمود بن التَّلاميد التُّركزيّ الشَّنقيطيّ، وتاج الدِّين الياس، وكانت الرِّحلة الحجازيَّة وكان صاحبها محمَّد بن عثمان السُّنُوسيّ مصدرًا معاصرًا لحركة العِلْم والأدب والتَّدريس في الحجاز الحديث.

الأكثر قراءة