الذاتية في المحيط الدوغمائي

الخميس - 08 ديسمبر 2016

Thu - 08 Dec 2016

جبل الإنسان وتميز عن بقية المخلوقات بالإدراك الذاتي أو العقل ووعي الذات، بغض النظر عن المكونات البيولوجية الأخرى التي يتمتع بها، فليس الإدراك هنا الشعور بالفرح والحزن أو الحالات العاطفية الأخرى، فهذه الحالات يشعر بها الكائن البشري وغير البشري من البهائم وغيرها، وإنما إدراك الذات هنا فقدان وعيها في المحيط الأيديولوجي الدوغمائي، خاصة أن الأيديولوجيا ليست مفهوما عاديا يعبر عن واقع ملموس، وإنما هو مفهوم اجتماعي تاريخي، مؤطر بعميلة أدلجة متراكمة من ضخ معلوماتي كثيف، تستلب شعوره وإدراكه تلقائيا، فيكون وعيه لذاته وعيا تبعيا تقليديا بالضرورة لمجمل البيئة التي نشأ فيها وترعرع بها.



تقليد الأجيال اللاحقة للأجيال السابقة أمر تقتضيه طبيعة الوجود، فحينما يدعو الله الناس أن يتبعوا ما ينزله على الرسل، فهو ينهاهم أن يتبعوا تقليد الآباء في كل حركاتهم التي اختلت بالغفلة عن المنهج أو بنسيان المنهج. يقول جل شأنه في هذا الصدد: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون)، وفي تفسير تلك الآية يقول القرطبي: قال علماؤنا: وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، وفي الآية الكريمة السالفة، دعوى لأمر واضح، لاتباع ما أنزل الله تعالى من منهج السماء الدائم الذي لا يتغير وليس إلى منهج الأرض والعادات التي قد تتغير وتتبدل، والناس حينما يحتجون يقولون: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. وتلك قضية تبريرية خطيرة في الوجود.



من هنا، سننطلق من تلك القضية، التي تكمن من خطر - تبرير وجودي - بالتقليد والتبعية العمياء، فهذه القضية تجعل الناس يفقدون وعي ذواتهم، وتقوم بتكبيل حرياتهم، والمتاجرة في إيهامهم، كما أنها تزيد ولا تنقص من تناقضاتهم وانفصامهم عن الواقع الذي يعيشه العالم من حولهم وكأنهم يعيشون وحدهم في عصر منصرم خارج عصرهم، فتجدهم يبررون فشلهم وإخفاقهم بالتآمر عليهم، فهم يعتقدون أن العالم الذي أبدع في صناعة الطائرات والسفن والصواريخ منشغل بتحركاتهم وفي كل سكناتهم.



هنا تكمن الفرصة لتسنح لنا بالتساؤل: عن الوعي كأيديولوجيا، هل يقدم لنا صورة وهمية عن الواقع؟ لاستجواب هذا التساؤل، يتفق الطرح - اتفاقا كليا - مع مثال الغرفة السوداء لآلة التصوير الذي قدمه مؤسس الفلسفة الماركسية (كارل ماركس) وذكر أن «الناس يبدون مقلوبين في الأيديولوجيا مثلما أن الأشياء تبدو مقلوبة في الغرفة السوداء لآلة التصوير»! وإذا كان الأمر كذلك، إذن، كيف يمكن معالجة تلك الأيديولوجيا المقلوبة ذات المحيط الثقافي المتعصب؟ وكيف تتكون الذاتية وتستقر في وعي الفرد ليعي ويفهم ويرى ماذا حملت الأيديولوجيا من آثار تطورات وصراعات ومناظرات اجتماعية وسياسية؟ فعندما يتأزم الصراع الماضوي في عصر من العصور فهو يعبر عن أزمات ذلك العصر، فبقدر ما يمكن أن يكون حجم الصراع، لا يمكن أن يتحول إلى الثقافة الراهنة، إلا إذا كان هناك خلل في إثبات الذات، وعدم تأكيدها كهوية، تتجسد ذات مستقلة من شمولية النزاعات والخصومات الماضوية، التي تعمقت في استلاب محو الشخصية العربية، فالحاجة إلى النقد تؤكد عبارة المفكر المغربي محمد عابد الجابري الشهيرة (نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي).



إن النقد الثقافي البناء هو مرآة التأدلج، يجعل من هو مغلوب على أمره، غالبا لأوهامه وتوهماته، فيرى ذاته رأي العين بالعين المجردة، وليس بحاجة حينها إلى آلة التصوير التابعة لماركس، لأنه تحرر من أوهامه، واستقل بذاته، مع الحفاظ على هويته، وبزوغ فاعليته الحية مع الثقافة الراهنة والواقع التاريخي، فتعود الحداثة، وتتضاءل نسبة التفكك والانحلال، وتتقاطع خطوط الفصام مع خطوط الوحدة والالتحام، هكذا هو النقد، يحدث في الوعي كل ما يعزز الفردية والاشتراكية، ويترجم لغة تنسجم لصالح الوطن والمواطنة.



الختام، ستكون لعبارة أستاذنا القدير محمد الرطيان: (الأوطان التي لا تقبل النقد تترهل).