محمد أحمد بابا

ما يبكيك؟!

الاحد - 04 سبتمبر 2016

Sun - 04 Sep 2016

من يقرأ في الكتب عن الصالحين الذين يبكون لسماع القرآن أو الحديث يتنقل بين قصص صحيحها وضعيفها وموضوعها واجدا فائدة عظيمة عندما يهتدي لطبائع النفوس وتغيرات الأهواء، فالتباين بين الأفراد وهم يذرفون الدمع عند زواجر الكلم الطيب واضح وظاهر.



والخلفية التراكمية للأحداث التي تمر على كل إنسان تمثل رابطة العصب في هذه المواقف العاطفية، وتعمل اختزانات الذاكرة عملها في هذه الأثناء لتظهر ما يختلج في النفس من خوف أو جبن أو حزن يمتد بحسب العوالق المحيطة بالحدث.



ولو اتفق الباكون في وحدة سبب البكاء وأن مصدره الحزن لانبرى سؤال مهم هنا «ما يحزنك؟» ولو تشابهت التفسيرات عن الحزن أنه من باب التأثر بالحال لظهر سؤال آخر مهم «مم تخاف؟» ولو قال من بكى وحزن بأنه يخشى نفس المصير لجاء السؤال المهم الذي درج أهل التاريخ على تدوينه عن تلك القصص «ما يبكيك؟».



وأحسب بأن الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين قد أفرد بابا لأحوال بعض الصالحين عند الموت، وذكر من المآثر الكثير عن جلهم بأنهم بكوا أو قاربوا البكاء رغم استغراب الجالسين معهم والحاضرين لوفاتهم من بكاء صاحب العمل الصالح وهو قادم على رب يحمد للمحسنين أعمالهم.



لكن إجابات أولئك كانت مغايرة لما يغلب للمتوقع، فيجيب معظم هؤلاء بأمور خطرت على بالهم أو كدرت خواطرهم واختلطت بعبراتهم لتكون هي المغزى من دموعهم المحقة في تحدرها والجادة في ظهورها، وبذلك يأتي الحال بموعظة هي الفائدة من هذا النوع للحكايات والقصص التاريخية.



إذا وقع الكلام موقع الصدق وصادف باحة قلب جاهزة للتأثر قابلة للنصح فلا شك بأن البكاء واقع والدموع جارية ولو حاول صاحبها إخفاءها، ورغم هذه الصورة المتكررة على مر العصور إلا أن التفسيرات لو أميط اللثام عنها فهي غير متحدة وغير متكافئة.



إن فهم الناس للعبارة هو المحفز على الترجمة البكائية دون مقدمات أو تهيئة مسبقة، وإن ثقافة الفرد التي اكتسبها من صعوبات مرت عليه هي التي تسمح للدموع أن تصبح مفتاحا لكثير من الخير أو بداية لعصر مقيت من الشعور بالإحباط والغبن، وستكون الذكرى بعد أول موعد مع البكاء قائدا لمرات قادمة لا يتحكم فيها إلا من أوتي قلبا من حديد.



لا يسأل السائل حين يسأل غيره «ما يبكيك؟» ليعرف سببا لهذا الأمر أو يقف على دافع لهذا التصرف بقدر ما يسأل استغربا أو إنكارا أو تسلية للباكي، وكأنه يقول له ما يبكيك والدنيا جميلة والخير موجود وليس في الموقف ما يدعو للبكاء، وما يبكيك والأصل أنك قادر على أن لا تبكي في هذا الوقت، ولكن الرد السريع الذي يتقنه العقلاء الماهرون يلجم السائلين في استسلام لجواب هو الفصل.



قد تعني للسامع قصة مؤثرة تاريخا يعرف مثله، وقد تعني للناظر صورة مؤلمة ألما عانى شبيها به، وقد يعني للقارئ نص محكم واقعا يعيشه واستطاع كاتب رواية أو مقال أن يستثير عاطفته به، وقد يكون الفرح مدعاة للبكاء كرابط بين الانتظار للفرج والشكر على النعمة أو التعبير عن عدم التصديق، وقد تكون الصدمة والمفاجأة هي من فتح الباب أمام طبيعة الإنسان البكائية لتأخذ زمام الأمور.



انعكاس الصور والتخيلات الماضية والمستقبلية يجعل منها استباقا لأي موضوع يبحث في مجال التأثير السلبي للموروث الثقافي عند كل الشعوب، فالمجتمعات التي تؤمن بأن القضايا الإنسانية هي حلقة الوصل بين الماضي والحاضر تكثر من استجداء العيون نحو البكاء أكثر من غيرها، بينما المجتمع الذي يعتبر أي واقعة هي من مسلمات الأمور وسنة الحياة تصنف هذا اللون من البكاء عند الاستماع أو القراءة أو الرؤية نوعا من الضعف.



عندما أمعن النظر في اختلاف كهذا أخرج بانطباع يحتم علي احترام الباكين أيا كان سبب بكائهم وأيا كانت طريقة استقبال خدودهم لدموعهم، فالوجهة التي يتجه نحوها التفكير والتذكر لا يعرفها الباكي إلا بعد هطول أمطار دموعه وهو يخبر من سأله «ما يبكيك؟».



فلا ينكر إذن على من لم يبك لحال مبكية، ولا ينكر على من بكى لصورة ليست مكان بكاء، ولا عتب أيضا على من أبكته أوصاف الجنة ولم تقطر له دمعة واحدة في صفة النار، فهو عند ذكر الجميل يشتاق له لحد البكاء أو أنه يخشى أن لا يكون من أهل النعيم، وعند ذكر النار استوعب أنها للكافرين وأن الله لا يعذب من لا يشرك، فادخر دموعه لرجاء رحمة ربه.



ولا يحق لأحد أن يلوم من بكى لزواج ابنته ولم يبك لموت ابنه، فبكاؤه عند زواج البنت قد يكون لمعرفته بأن العمر مر به لهذه اللحظة أو أن الفرح أجج فيه عاطفة الحب لدرجة البكاء أو أنه يخشى أن يأخذه الموت قبل أن يرى أحفاده منها، وتمالكه لنفسه عند موت ابنه رغبة في أن يكون له أجر الصبر أو اطمئنانا لأن المصيبة القوية هذه رحمة من الله به وخير وجنة بعد طول عمر.



إن قيل لي يوما «ما يبكيك؟» فجوابي قطعا سيكون «هو ما يبكيني».



[email protected]