علي قطب

ثقافة الحياة في تغريبة زهران القاسمي

الأربعاء - 24 مايو 2023

Wed - 24 May 2023

كل عمل إبداعي جاد يحمل قيمة للبشرية أو يقول كلمة يمكن أن تضاف إلى الرصيد الفكري الذي نستثمره في صناعة الحضارات، وهذا ما ينطبق على رواية تغريبة القافر للأديب العماني زهران القاسمي.

استطاع زهران كتابة عمل يعبر عن ثقافة الماء بوصفها الرافد الأساسي الجاري في أوردة الأرض والبشر من ناحية، والخط الواصل بين سحاب السماء وأغوار الآبار من ناحية أخرى، فمعالجة الرواية لظاهرة الماء نابعة من استراتيجية الكاتب في تقدير ثقافة الحياة وهذه القضية تصل الكاتب برؤية العالم في الثقافة الإسلامية مثلما تتجلى فيها البيئة العربية الصحراوية فخط إنتاج الماء هو المحور الذي يلتقي عنده السعي الإنساني لغرس أدوات البقاء والنماء والازدهار، وعن طريق بحث الإنسان عن الماء تتدفق الطاقة البشرية الحدسية والعقلية والسلوكية لتعالج الطبيعة الصخرية الصعبة لكي تنشأ المدن والثقافات والأفكار بالإضافة إلى المشاعر والعواطف والإبداع، فكل هذا يتحلق حول الماء النابع من قلب الصخر.

عالج القاسمي قضية الإنسان في الكون والمجتمع من خلال علاقة بطل روايته بالماء، فصنع أسلوبه الخاص من الألفاظ الواقعة في الحقل المائي بما في ذلك التشبيهات والاستعارات وجماليات الصياغة السردية فضلا عن طريقة عرض المشاعر والأفكار فأصبحت العلامة المائية عند القاسمي مفتاحا أسلوبيا لصيغة السرد، بالتالي لم يكن استخدام الرواية للماء على سبيل الموضوع فقط بل تغلغل هذا الاستخدام في لغة الخطاب.

بالإضافة إلى تضافر المحتوى والأسلوب فقد بنى المؤلف روايته "تغريبة القافر" وفقا لمحطات متصلة بالماء، فإذا نظرنا إلى النص بوصفه يقص سيرة شخصية "سالم بن عبدالله" سنجد أن الميلاد يحدث في الأجواء المائية من أم غريقة ويوما ماطرا شديد السيول ثم يكتشف سالم موهبته في الاستماع إلى صوت الماء الجاري في الصخور فتصبح هذه سمته وعمله ومساره في قريته والقرى المجاورة ثم يقع في العشق بنظرة من عين مائية تغادره حتى يجدها مثلما يغادر الماء الأرض حتى يكتشفه الباحث عنه بالعلم والحدس، يتخصص سالم في هذا المجال وبعد تكوين أسرته يكبر حلمه الفردي باكتشاف خاص لا يتحقق ويعود إلى العمل في النهاية ليلقى مصرعه في تدفق مائي رهيب حاول مقاومته كثيرا ثم انطلق معه إلى مصيره الأخير فأصبحت بنية القصة من حيث سيرة بطلها بالنشأة والتكوين والنضج والعزلة مرتبطة برحلته المائية فالتقت المحاور الثلاثة الموضوعية والأسلوبية والهندسة الروائية في تكوين كامل تنطبع فيه الاستعارة المائية.

وينضم إلى تلك المحاور الثلاثة محور رابع هو تصنيف العالم وفقا لأنواع الأرض التي يخرج منها الماء طبقا للصعوبة أو الليونة، والانحسار أو الانطلاق، والامتداد الطولي أو الدائري، وهذه كلها أنماط من الرؤى تنطبق على البشر وتوجهاتهم الذهنية والشعورية.

يستمتع القارئ بالنص الروائي لزهران القاسمي بما فيه من جماليات شعرية وتماسك ووحدة عضوية، وفي الوقت نفسه اقتصار العمل على سيرة شخصية لها تقاطعات بالطبع مع كثير من النماذج التي تعيش في القرية وكل نموذج له حكاية وتكوين وفكر، وبقدر ما تحتفظ هذه السيرة بخصوصيتها فإنها يمكن أن تكون خريطة توضع عليها كثير من الأنماط البشرية في التاريخ والواقع مع الاحتفاظ بالأصل البنائي لرحلة الإنسان من الانبثاق إلى التواري مرورا بمودة التكوين والعاطفة ومحاولة التحليق من الممكن إلى المستحيل.

قرية القاسمي التي خرج منها البطل في تغريبته لها حضورها الخاص لكنها في الوقت نفسه مثل كل القرى في العالم، تنشغل بالقيل والقال، تنال من أصحاب المواهب وتسخر من أفكارهم فتدفعهم للبحث عن الذات في تضاريس مغايرة يمكن أن تكون فيها نهايتهم حين تعجز أدواتهم عن الاستمرار في بناء مشروعهم الإبداعي.

يفتقد القارئ في الرواية ملامح العالم العصري فكأنه يعيش في أجواء أسطورية خاصة بعيدة عن وسائل الإعلام المحيطة به في القرية الكونية الرقمية، وهذا ذكاء من المؤلف، لقد جعل قريته نموذجا لانتشار الشائعات والحروب الكلامية والمنازعات الصغيرة، ولكن ظل التعاون أساسا دافعا لمواجهة صخور الطبيعة وتقلباتها، فالحياة لا يمكن أن تكون فردية منعزلة عن السياق البشري الكلي ولا يمكن للذات أن تمضي دون محبة تدفعها أو صداقة تدعمها أو إضافة تضع فيها بصمتها وهذا ما حافظ عليه القاسمي في روايته التي جعل الماء فيها رمزا لفن الحياة بكل ما في عالمنا من صعوبات وجفاف واحتياج إلى التدفق العاطفي والفكري.

لقد قارب زهران القاسمي في روايته تغريبة القافر الواقعية السحرية عند غابرييل غارسيا ماركيز وأليخو كاربنتير وخوليو كورتاثر ولكن من تكوينات البيئة العربية بطبيعتها الجغرافية وهويتها الثقافية.