من أين نبدأ؟
السبت - 08 أبريل 2023
Sat - 08 Apr 2023
يكتب أحدنا مقالا ويظن أنه لن يُلقى له بال، ثم يكتشف من تعليقات الآخرين ونقاشهم أنه قد لامس شيئا مهما في داخلهم، جعلهم يتأوهون ويتكلمون بقدر معرفتهم، حبا ورغبة في تجويد ما نحن فيه من نمو وتقدم.
ولعمري فالكل مشترك في هذه الرغبة، وإن اختلفوا في آلية العمل وخريطة تنفيذها، وتلك ميزة يمكن البناء عليها، فالكل يهدف بلوغ النهضة المرجوة وإن اختلفت الطرق، على أن السؤال المركزي هو: كيف نبدأ نهضتنا؟ ومن أين نبدأ؟
تذكر المصادر التاريخية تجارب أمم مثيلة عاشت ما نحن فيه من تأخر وتراجع، لكنها تمكنت من أن تصبح اليوم في مصاف الدول العشر الأولى في العالم تقدما ونهضة، ومن أولئك اليابان، هذه الإمبراطورية التي عاشت انغلاقا كبيرا حجب عنها الشمس، فأصبحت في ذيل قائمة الأمم، حيث دخلت بعد توحيدها عام 1640م في عزلة تامة عن العالم الخارجي لفترة زادت على المئتي عام، حتى جاء عهد ميجي رائد الإصلاح والتحديث الذي وضع اليابان في مسارها الصحيح، فأسس نظاما تعليميا ساعد اليابانيين على اللحاق بركب الغرب، وأرسل البعثات الطلابية لدراسة النظم التعليمية في الدول المتقدمة، والتي رجعت إلى بلادها مترجمة ما تعلمته من علوم ومعارف إلى لغتها الأم، وتمكنت من إقرار نظام تعليم واءم بين المنهج الغربي الحديث ومنظومة القيم والأخلاق المرتكزة على مبادئ كونفوشيوس، والمهم أن ذلك قد تحقق بلغتهم الوطنية فكان ذلك ابتداء انطلاق الحضارة اليابانية بأصالة وثبات.
على أن ذلك هو ما قام به الأوروبيون مع إشراقة عصر النهضة، حيث كانت أوروبا وحتى نهاية العصور الوسطى ترفل في سبات التخلف والجهل المطبق، في الوقت الذي كان العرب المسلمون يعيشون نهضة حضارية كبرى، سادت فيها ثقافتهم العربية، وذلك من بعد نقلهم للمعارف اليونانية والفارسية والهندية وغيرها من الفلسفات إلى اللغة العربية أولا، ليعملوا على تأملها وتحليلها واستخلاص الفرائد منها، وكان لهم الفضل في ربط الحضارة الغربية اليونانية القائمة على التفوق المعماري، بالحضارات المشرقية الفارسية والهندية وغيرها، الروحية في مبناها، العميقة في مضمونها الفلسفي، وبذلك تشكلت الحضارة العربية المسلمة، وتلقفها طلاب المعرفة الأوربيون عبر منافذ الاتصال الرئيسة وهي الأندلس، ومملكة صقلية، والقدس حال احتلال الأوروبيين لها إبان ما يعرف بالحروب الصليبية.
تلك كانت الشرارة الأولى لما يعرف بعصر النهضة في أوروبا خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، والتي استهدف روادها الأوروبيون نقل المعرفة من اللغة العربية إلى لغاتهم المحلية، فترجموا كتب ابن رشد، وقانون ابن سيناء الطبي، وكل الأفكار والرؤى المعرفية التي درسوها حال اتصالهم بمحاضر العلم العربية؛ حتى إذا هضموها بنوا عليها أفكارهم التي لم تبتعد عما قام به علماء أنوار الحضارة العربية المسلمة، فرسالة الغفران لأبي العلاء المعري هي أصل وفصل الكوميديا السوداء لدانتي، وشك الإمام الرازي هو شك ديكارت، وهكذا دواليك في مختلف العلوم والمعارف.
إذن، نقل المعرفة وترجمة العلوم كان هو المفتاح الرئيسي لبناء حالة التقدم والنمو، فأن يفكر المرء بخطوة واحدة خير من أن يفكر بخطوتين، ومهما بلغت درجة إجادة أحدنا للغة أخرى إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية أو روسية أو صينية أو يابانية، فإنه سيلجأ إلى فهم ما يفكر فيه بلغته الأم، ودون أن يفطن لذلك، فاللغة هوية يتم تشكيل بصمتها الجينية في خريطة الذهن والمرء في بطن أمه، ومع لحظات الولادة ونموها الأول، بما يرسخ في وعيه الذهني المبكر من سمات صوتية، يصعب تلاشيها حين يكبر ناشئا بينها.
هكذا نؤسس لنهضة جادة، وكم أرجو أن تقوم وزارة التعليم وجامعاتنا بمساعدة الباحثين المبتعثين وغيرهم على ترجمة ما أنجزوه من رسائل علمية بلغات أخرى إلى اللغة العربية، بهدف إتاحة الفرصة للاستفادة منها، ولبناء أول قاعدة صلبة في قواعد تأسيس النهضة الحقيقية تختص بالترجمة ونقل المعرفة.
على أن الأمر لن يكتمل دون التصميم الجاد على أن تكون اللغة العربية هي لغة الاتصال والتواصل مع الآخر في مختلف مؤتمراتنا داخل المملكة، وحال تقديمنا لأوراقنا البحثية داخل المملكة وخارجها، ولسنا بدعا في ذلك، كما لن نكون أقل من الكيان الإسرائيلي الذي يفرض الترجمة من وإلى لغته الهجينة القاصرة التي لا أساس عميق لها.
zash113@
ولعمري فالكل مشترك في هذه الرغبة، وإن اختلفوا في آلية العمل وخريطة تنفيذها، وتلك ميزة يمكن البناء عليها، فالكل يهدف بلوغ النهضة المرجوة وإن اختلفت الطرق، على أن السؤال المركزي هو: كيف نبدأ نهضتنا؟ ومن أين نبدأ؟
تذكر المصادر التاريخية تجارب أمم مثيلة عاشت ما نحن فيه من تأخر وتراجع، لكنها تمكنت من أن تصبح اليوم في مصاف الدول العشر الأولى في العالم تقدما ونهضة، ومن أولئك اليابان، هذه الإمبراطورية التي عاشت انغلاقا كبيرا حجب عنها الشمس، فأصبحت في ذيل قائمة الأمم، حيث دخلت بعد توحيدها عام 1640م في عزلة تامة عن العالم الخارجي لفترة زادت على المئتي عام، حتى جاء عهد ميجي رائد الإصلاح والتحديث الذي وضع اليابان في مسارها الصحيح، فأسس نظاما تعليميا ساعد اليابانيين على اللحاق بركب الغرب، وأرسل البعثات الطلابية لدراسة النظم التعليمية في الدول المتقدمة، والتي رجعت إلى بلادها مترجمة ما تعلمته من علوم ومعارف إلى لغتها الأم، وتمكنت من إقرار نظام تعليم واءم بين المنهج الغربي الحديث ومنظومة القيم والأخلاق المرتكزة على مبادئ كونفوشيوس، والمهم أن ذلك قد تحقق بلغتهم الوطنية فكان ذلك ابتداء انطلاق الحضارة اليابانية بأصالة وثبات.
على أن ذلك هو ما قام به الأوروبيون مع إشراقة عصر النهضة، حيث كانت أوروبا وحتى نهاية العصور الوسطى ترفل في سبات التخلف والجهل المطبق، في الوقت الذي كان العرب المسلمون يعيشون نهضة حضارية كبرى، سادت فيها ثقافتهم العربية، وذلك من بعد نقلهم للمعارف اليونانية والفارسية والهندية وغيرها من الفلسفات إلى اللغة العربية أولا، ليعملوا على تأملها وتحليلها واستخلاص الفرائد منها، وكان لهم الفضل في ربط الحضارة الغربية اليونانية القائمة على التفوق المعماري، بالحضارات المشرقية الفارسية والهندية وغيرها، الروحية في مبناها، العميقة في مضمونها الفلسفي، وبذلك تشكلت الحضارة العربية المسلمة، وتلقفها طلاب المعرفة الأوربيون عبر منافذ الاتصال الرئيسة وهي الأندلس، ومملكة صقلية، والقدس حال احتلال الأوروبيين لها إبان ما يعرف بالحروب الصليبية.
تلك كانت الشرارة الأولى لما يعرف بعصر النهضة في أوروبا خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، والتي استهدف روادها الأوروبيون نقل المعرفة من اللغة العربية إلى لغاتهم المحلية، فترجموا كتب ابن رشد، وقانون ابن سيناء الطبي، وكل الأفكار والرؤى المعرفية التي درسوها حال اتصالهم بمحاضر العلم العربية؛ حتى إذا هضموها بنوا عليها أفكارهم التي لم تبتعد عما قام به علماء أنوار الحضارة العربية المسلمة، فرسالة الغفران لأبي العلاء المعري هي أصل وفصل الكوميديا السوداء لدانتي، وشك الإمام الرازي هو شك ديكارت، وهكذا دواليك في مختلف العلوم والمعارف.
إذن، نقل المعرفة وترجمة العلوم كان هو المفتاح الرئيسي لبناء حالة التقدم والنمو، فأن يفكر المرء بخطوة واحدة خير من أن يفكر بخطوتين، ومهما بلغت درجة إجادة أحدنا للغة أخرى إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية أو روسية أو صينية أو يابانية، فإنه سيلجأ إلى فهم ما يفكر فيه بلغته الأم، ودون أن يفطن لذلك، فاللغة هوية يتم تشكيل بصمتها الجينية في خريطة الذهن والمرء في بطن أمه، ومع لحظات الولادة ونموها الأول، بما يرسخ في وعيه الذهني المبكر من سمات صوتية، يصعب تلاشيها حين يكبر ناشئا بينها.
هكذا نؤسس لنهضة جادة، وكم أرجو أن تقوم وزارة التعليم وجامعاتنا بمساعدة الباحثين المبتعثين وغيرهم على ترجمة ما أنجزوه من رسائل علمية بلغات أخرى إلى اللغة العربية، بهدف إتاحة الفرصة للاستفادة منها، ولبناء أول قاعدة صلبة في قواعد تأسيس النهضة الحقيقية تختص بالترجمة ونقل المعرفة.
على أن الأمر لن يكتمل دون التصميم الجاد على أن تكون اللغة العربية هي لغة الاتصال والتواصل مع الآخر في مختلف مؤتمراتنا داخل المملكة، وحال تقديمنا لأوراقنا البحثية داخل المملكة وخارجها، ولسنا بدعا في ذلك، كما لن نكون أقل من الكيان الإسرائيلي الذي يفرض الترجمة من وإلى لغته الهجينة القاصرة التي لا أساس عميق لها.
zash113@