عبدالله مشرف المالكي

الضربة القاضية

الجمعة - 17 مارس 2023

Fri - 17 Mar 2023

هل ارتديت القفازات يوما، ونزلت إلى الحلبة لممارسة رياضة الملاكمة؟ ربما لا، لكنك حتما مررت بموقف واحد على الأقل شعرت فيه أن محدثك يلكمك بكلماته ذات اليمين وذات الشمال، انتظارا لأن ينهال عليك بالضربة القاضية، ويخرس صوتك للأبد.

يحدث هذا في كثير من النقاشات التي تتحول إلى جدالات عقيمة الهدف منها الانتصار الشخصي، لا الانتصار للحقيقة، أو للصواب.

عندما تدخل بقدميك، وبإرادتك الحرة حلبة الملاكمة عليك أن تقبل بتلقي اللكمات والصفعات، وأن تهيئ نفسك لسلسلة من الاعتداءات اللفظية التي ليست ذات صلة بموضوع النقاش، فأغلب هؤلاء الذين يعتمدون مبدأ الملاكمة اللفظية يفتقرون إلى مهارات النقاش والجدل العلمي، لذلك يلجؤون إلى الهجوم والتبجح وشخصنة القضية، بهدف السيطرة وإيذاء الآخر.

عندما تراجع في ذهنك شخصيات هؤلاء الملاكمين ستظن أن أكثرهم نرجسيون، أو يعانون غالبا من اضطراب الشخصية النرجسية، ولكن هذا ليس صحيحا في الغالب؛ لأنهم في حقيقة الأمر أشخاص «مساكين» تعرضوا للإيذاء في مراحل مبكرة من حياتهم، فاضطروا إلى تعطيل خاصية التعاطف مع ذواتهم ومع الناس؛ لذلك لا يشعرون بالأسف عندما يوجهون إليك لكمة قاضية في شكل كلمة جارحة، أو تعبير مؤذ، أو إيماءة مستهزئة.

يسيء الأشخاص العدوانيون لفظيا؛ لأنهم تعلموا في مكان ما من حياتهم أن الإكراه والتحكم يعمل لصالحهم، دون أن يعني ذلك أنهم مختلون عقليا.

وهذا يجعلني أميّز بين النقاش البناء الذي ينجح أطرافه في نسج أجزاء الحقيقة الموجودة عند كل واحد منهم، وبناء مفهوم واحد يمثل الصورة الأقرب للصواب، وبين جدال عقيم يبحث فيه كل طرف عن انتصار شخصي، وتسجيل نقطة لصالحه، وتكوين حكاية قابلة للحكي وإعادة الحكي مع الأصدقاء والمعارف.

النوع الأول من النقاشات يمكن أن يكون شديد الوقع، قوي النبرة، إلا أن جميع أطرافه لا يفقدون احترامهم لأنفسهم أو لمن يناقشونهم، أما النوع الثاني فقد يكون هادئا، لا صراخ فيه، ولكنه مفخخ، فكل كلمة هي قنبلة لفظية، يمكن أن تحول من تلقى عليه إلى أشلاء.

يعزز الجدال الحقيقي التفاهم والتواصل مع المخالفين والأصدقاء والأزواج والرؤساء والغرباء، وما إلى ذلك؛ لأن لدى الجميع احتراما للآخر، ورغبة مسبقة في تجنب إيلامه أو جرحه نفسيا، أما العدوان اللفظي أو الملاكمة الكلامية فإنها تصنع الفتنة، وتولد سوء الفهم وعلاقات الخصومة، مما يؤدي إلى خسارة الجميع.

إذا رغبت أن تزدهر علاقاتك مع الناس، فتجنب الملاكمة بالكلمات، وإذا رغبت في الحفاظ على سلامة داخلك، وهدوئك النفسي، فتحاش الخوض في معارك لفظية، حتى وإن بدت أنها معارك مضمونة الفوز، ففي حقيقة الأمر في مثل هذه المباريات ليس ثمة فائز، وإنما يخسر الجميع.