هتون أجواد الفاسي

كان نسيجا وحده.. الدكتور عبدالرحمن الأنصاري

الأربعاء - 15 مارس 2023

Wed - 15 Mar 2023

لم يكن البروفيسور عبدالرحمن الأنصاري مجرد أستاذ أو باحث أو مربٍ.. كان أبعد من ذلك.. كان رجلا نبيلا دمثا.. عالما ذا بعد نظر.. ذا رؤية متقدمة لما ينبغي أن يكون عليه العمل الآثاري في المملكة والإعداد له، فضلا عن دوره السياسي فيما بعد في مجلس الشورى.

لكن دوره التعليمي العلمي العملي هو ما يطغى على سيرته العطرة التي كنت محظوظة بأني كنت جزءا منها منذ ثمانينيات القرن الماضي كطالبة ماجستير في التاريخ القديم، وحيث توسم فيّ حماسة الشباب للانخراط في درب هذا التخصص الدقيق والصعب والذي يتطلب بحثا غير متوانٍ في دروب اللغات القديمة والحديثة. فلم يألو جهدا في تزويدي بما أمكن من معينه.. فأخذت على يديه عددا من المقررات في التاريخ واللغات في صحبة زميلات التاريخ القديم، المغفور لها الدكتورة نورة عبدالله النعيم، في مرحلة أولى ومع الدكتورة الغالية عواطف سلامة في مرحلة تالية.

كنا نستعرض نسخا من قراءات كاسكل للكتابات اللحيانية ونعدل عليها من قراءاتنا وبمقارنتها بقراءات جوسن وسافينياك لما جمعوه من جبال العلا، ونسخا أخرى من قراءات فان دن براندن لكتابات البادية الثمودية أو هاردنغ ووينينت وريد للصفوية، أو بيستون للمسند، وهكذا. استمر هذا تقليدنا مع عدد آخر من اللغات التي انتشرت في الجزيرة العربية القديمة مثل الآرامية والنبطية واليونانية واللاتينية والعبرية، لا يوقفنا أي شيء عن استكمال بناء القاعدة العلمية التي نحتاجها لنكون كما يريده لنا الدكتور عبدالرحمن، متمكنات متخصصات في علومنا لنقود المسيرة كل في طريقها وطريقه ومجاله. وهو ديدنه العلمي في إشارته على طلبته بمواضيع أبحاثهم أو بالدول التي يدرسون فيها.

كان يهدف ويعمل على تكوين كوكبة من المؤرخين والآثاريين المتخصصين في كافة مجالات علوم الآثار القديمة في الجزيرة العربية من حيث كان العلم متاحا وبأي لغة كانت لئلا تقف اللغة عائقا في الوصول للمعلومة مباشرة ودون وسيط مترجم. فتخرّج من تحت يده طلبة أكملوا في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإسبانيا، وإيطاليا وطبعا بريطانيا وأمريكا. واليوم توسعت هذه المجالات وأفق البعثات بشكل كبير جدا لم يكن متاحا ولا منظورا له في الثمانينيات والتسعينيات.

كان حرصه على متابعة أعمال ونشاطات طلبته الذين لم يعودوا طلبة يجعل من رابطتنا مع أستاذنا رابطة دائمة تتطور مع الزمن وتتحول من التلمذة إلى المشاركة العلمية بكل أبعادها. كان يشعر بالفخر أننا طلبته السابقون وأننا أوفياء لعلمه وتعليمه وخبرته.

كان الأنصاري من جيل تدرب على كل ما يمكن في مرحلة الخمسينيات والستينيات، حتى كانت له الفرصة أن يشارك في حفرية آثارية مع العالمة كاثلين كينيون في القدس في فترة تحضيره للدكتوراه في ليدز ببريطانيا، شارك بعدها في كل مراحل تأسيس الجامعة الجديدة، جامعة الملك سعود في الرياض، من قسم التاريخ إلى قسم الآثار والمتاحف، إلى عمادة كلية الآداب، إلى بدء عمليات التنقيب في مواقع المملكة الأثرية. كان اختيار الفاو كموقع أثري لما قبل الإسلام اختيارا موفقا لما تم العثور عليه من سلسلة من الاكتشافات الثرية على مدى عشرين عاما (1972-1996) من تنقيب طلبة قسم آثار ما قبل الإسلام في جامعة الملك سعود، الذي عثر على مدينة متكاملة لمملكة كندة تؤرخ ما بين القرن الثالث ق.م والثالث الميلادي وربما قبل ذلك.

وكان أهم ما فيها ذلك السوق المسور الذي كان أثمن عند سكان قرية ذي كهل من تسوير بيوتهم. ظاهرة فريدة من نوعها، كانت مدينة قوافل مزدهرة بقصورها ومعابدها وعملتها وفخارها ومعادنها وزجاجها وتماثيلها ونسيجها الذي كان يُنسج في كل بيت ولوحاتها الجدارية ونظامها المائي والصحي.

لحسن الحظ أن نتائج تلك التنقيبات وجدت سبيلها إلى النور في عين حياة الأنصاري إذ أسهمت وزارة الثقافة والهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بنشر سبع مجلدات من دراسات آثار الفاو بالتعاون مع جامعة الملك سعود تمثل خلاصة العمل الدؤوب وتتبقى مجلدات الكتابات والنقوش.

كان الحفاظ على تاريخ الوطن وآثاره هاجسه والبحث العلمي وسيلته في بحثه الخاص أو في تأسيسه لدار نشر أو في إصداره سلسلة من كتب في تاريخ المملكة وآثارها أطلق عليها «قوافل»، أو في مشاركته في تأسيس مشروع المرجع في تاريخ الأمة العربية الذي يصيغ كتابة تاريخ مشترك متكامل متقاطع بين كافة الدول العربية.

وبقي لقب أبو آثار الجزيرة العربية ورائد علم الآثار في المملكة هو لقب الدكتور الأنصاري حتى بعد أن دخل المعترك السياسي باختيار المقام السامي له ولدورتين شوريتين ابتداء من أول دورة لمجلس الشورى عام 1994 وحتى 2002. واستمر هذا التراث في أسرته الصغيرة باختيار المقام السامي لابنته الدكتورة لبنى الأنصاري عضوة في مجلس الشورى في الدورة الأولى للنساء عام 2013-2016، فكانت خير خلف لخير سلف.

وقد كُرم الدكتور الأنصاري في حياته بعدد من الجوائز والأوسمة الملكية الرفيعة، كما كتبت في سيرته وتاريخه الكثير من الشهادات التي شاركتُ في إحداها. وفي كتاب علمي بعنوان دراسات في تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها أهدي إليه عام 2007 للاحتفاء بوصوله إلى سن السبعين. وبنوتي العلمية على الدكتور عبدالرحمن، التي أعتز بها، لا تنتهي، فهو من قدم لكتابي الأول الذي كان رسالة ماجستير أشرف عليّ فيها، وهو الذي شجعني للنشر في كل الأوعية العلمية الممكنة مثل العصور وأدوماتو والكتاب المرجع في تاريخ الأمة العربية بعد أن يجعلني أمر بكل التقاليد العلمية الممحصة، وهو الذي قرّظ أول كتاب لي باللغة الإنجليزية والذي كان عن المرأة النبطية، مشجعا ومحفزا لأكمل الطريق الذي مهده لي.

لا يمكن لهذه السطور أن تفي خمسة وعشرين عاما من التقاطعات التي أفتخر بها، ولا يسعني إلا أن أكرر كلماتي التي نعيته بها لدى سماعي برحيله، «لدي غصة في توديعه رغم إدراك مرضه الطويل. كان خير أستاذ ومعلم، علم من أعلام الآثار في المملكة والعالم العربي وأفضاله العلمية عليّ لا تعد ولا تحصى».

رحم الله الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري، وألهم زوجته، وأبناءه ومحبيه الصبر والسلوان.