زيد الفضيل

الناس أعداء ما جهلوا

السبت - 11 مارس 2023

Sat - 11 Mar 2023

شكلت الصحافة الثقافية العماد الرئيسي لحركة النهضة العربية جراء إثارتها لأسئلة ظلت ماثلة بآفاقها وتطلعاتها أمام مرأى ومسمع كل مثقف يحدوه الأمل التاريخي للخروج بالأمة العربية من نفق العزلة والتخلف وصولا بها إلى عوالم الرقي والتقدم.

وقد تنوعت تلك الأسئلة وتغايرت بحسب توجه كل فريق، فكان أن تشكلت ملامحها ضمن عدة مسارات فكرية، تبنى أولاهما الاهتمام بالجانب التراثي من منظور سلفي، يقوم على تقرير حتمية الاعتماد على المكنون التراثي للأمة، باعتبار صيرورته التاريخية والدينية، انطلاقا من المقولة المشهورة «لا يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح أولها».

في حين اهتم أصحاب المسار الثاني بالجانب العلمي التقني منطلقين من نتائج التجربة الغربية التي أخرجت المجتمع الأوروبي من تيهه المعرفي، فكان أن آمن منظرو هذا المسار بالتغريب كبداية لمشروع النهوض والتقدم.

على أن فريقا ثالثا قد انفرد بموقف بين الفريقين، فقرروا أهمية الاستئناس بالتراث، والنظر إليه بمنظار عقلي تجديدي، باعتبار ظرفية الزمان والمكان المتغيرين، مع الإقرار بأهمية اقتفاء خطوات المجتمعات المتقدمة.

وعلى الرغم من حالة التنوع هذه إلا أن مجتمعنا العربي ظل يراوح مكانه، ولم يحقق هدفه المنشود، كما لم تتطور آماله، بل أخذ في التراجع أميالا عما كان عليه، والسؤال: أين تمحور الخلل؟ وكيف الخروج من شرنقة التخلف والجهل الحضاري؟

في هذا السياق دعا المفكر السعودي إبراهيم البليهي إلى أهمية تأسيس قواعد منهجية لعلم الجهل، لنتمكن من تحليل ودراسة بنية التخلف في مجتمعاتنا، ولا سيما أننا نعيش حالة جهل مركبة وفق رأيه تقوم على: جهل الإنسان بجهله، ثم اغتباطه بهذا الجهل.

وواقع الحال فقد تعارف أهل العلم على أن الجهل ينقسم إلى 3 أقسام: أولها، الجهل البسيط: وهو فهم المسألة بدون إحاطة كاملة، وثانيها، الجهل الكامل: وهو انعدام العلم بالمسألة، وثالثها، الجهل المركب: وهو فهم الأمر خلاف ما هو عليه.

إذن هو الجهل المركب الذي انحبس وعينا الديني خلف قيوده، وأعاق أذهان شريحة واسعة من علمائنا الدينيين عن ولوج عوالم العصر الحديث بكل ما فيه من متغيرات مادية، وتقدم ثقافي في المنهج والتفكير، لتنحبس أفانين معرفتهم في محاربة مظاهر حياتية، وتنحصر اجتهاداتهم ضمن بوتقة ضيقة في المفهوم والاستدلال، قوامها التقليد والاتباع، وهو ما أدى إلى تفشي ثقافة الاستنساخ، التي قتلت كوامن الإبداع في العقل العربي، في مقابل الانغماس في ما يعرف بالتتمات، ومن ثم الشروح، وشرح الشروح بعد ذلك، مخالفين أبجديات ما تركه العلماء الأقدمون من قواعد أصولية، مكنتهم من استيعاب ما ورثوه من ثقافة كونية، فكان ما كان من تطوير لآلياتها، والوصول بها إلى نتائج متطورة انعكست آثارها على ملامح تفكيرهم، وخطى آثارهم المادية والمعنوية.

لقد عاش مجتمعنا العربي المسلم في صراع بين منهجين متغايرين في التفكير، أحدهما مثّله أهل الرأي الذين جعلوا من العقل الجمعي مرجعا رئيسا لفهم مختلف النصوص الحياتية (دينية أو دنيوية)، في حين استند الفريق الآخر على حجية صحة سند النقل دون النظر إلى متنه، وهو ما أدى إلى تباين مساري التفكير بينهما، وكان له أثره السلبي على مسار الحراك الثقافي في عديد من الفترات التاريخية.

ومع سيطرة المدرسة النقلية خلال العقود السالفة، عاش المسلمون وصاية علمية أحادية جراء إسقاط أغلب علماء هذا الفريق عصمة النص وقدسيته على فهمهم وشرحهم له، مما انعكس سلبا على مكامن الحياة العلمية، والاجتماعية، وغاص المجتمع العلمي في بحور مظلمة من البحث، امتد بأثره السلبي ليبرز في الكثير من المؤلفات الداعية إلى نبذ كل ما هو جديد باعتبار حرمته، وعدم ورود أي نص نقلي يقضي بإباحته، مما مهد لظهور ما عرف سابقا بمدرسة الطين التي أرادت العودة بالناس إلى ما كان عليه السلف زعما برأيهم أن ذلك من النهضة والإصلاح، وهو ما حاول الرعيل الأول من علماء التجديد والنهضة منابذته بالأدلة والبراهين الشرعية والعقلية.

أخيرا، صدق الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين قال: الناس أعداء ما جهلوا.

وهو ما كان من أولئك الذين أرهقونا بنقاشهم العقيم حول قضايا ليست مخالفة للدين بالضرورة، ثم حين أشرقت شمس الحرية والرؤية المنطقية في هذا العهد برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وقيادة ولي عهده رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان يحفظهما الله، أضاء الوطن من جديد، ونفض عن كاهله ظلمة السنين، متطلعا لحياة أكثر إشراقا وتقدما.